29 سبتمبر 2025 11:40 ص

مقامة حب كونفوشيوس

مقامة حب كونفوشيوس

منذ فجر التاريخ , ظلّ الحب لغزاًعصيّاً على الفهم , يراوغ كلّ محاولة للحصرأوالتعريف , ويظلّ كالسحر يلامس أرواحنا , ويحوّل واقعنا إلى لوحة من المشاعر والألوان , وينسب الى الفيلسوف الصيني كونفوشيوس قوله : (( الاعتزاز بالجهد اكثر من الاعتزاز بالثمرة يمكن ان يسمى بالحب , ان القلب الذي يعمر بالحب لايخطيء )) , والحب ما يزال عصيّا على الفهم والحصر , وما زال شبه طلسم أثره كفعل السّحر, كان ولا يزال أكسير الحياة وأساسا لتواجد الإنسان واستمرار النّوع , هو احتياج إنساني لا غنى عنه , محرّكا له وملهما لإبداعه تجلّى رسما , نحتا , فلما , شعرا ونثرا , كان ولا يزال قيمة سامية راقية ترتقي إلى مستوى القداسة , وعندما تكون جذور الحب عميقة , فلا داعي للخوف من رياح المسافات .

وفي مقاربات فهم الحبّ , فأنه يعتبر باقة متنوّعة من المشاعر الإيجابية والحالات العقلية قويّة التّأثير وهو بحكم التنوّع الكبير في الاستخدامات والمعاني للمصطلح يبقى غير قابل للحصر بشكل ثابت ودقيق . هو شعور بالانجذاب والتعلّق العاطفي بدرجات متفاوتة تجاه أشخاص , مخلوقات , أشياء أو معاني وأفكار , وقد حاول العلم الحديث ضبطه وإخضاعه لنبراسه لتبرز بعض النّظريات البيولوجية والنّفسية في محاولة لفكّ طلاسمه , حيث تقسّم عالمة السّلوك البشري ((هيلين فنس )) الشعّور بالحبّ إلى ثلاثة مراحل متداخلة وهي الشّهوة والانجذاب والتعلّق , ممّا يتسبّب في ارتفاع دقّات القلب وفقدان شهيّة الأكل وقلّة النّوم , أمّا عالم النّفس (( روبرت ستيرنبرغ )) فيفكّكه إلى ثلاثة مكوّنات مختلفة وهي الارتباط والعلاقة الحميميّة والالتزام , هي مقاربات نسبيّة للفهم قد تفسّر شيئا لتغيب أشياء فهو قيمة مطلقة وليست نسبية كما يقول الفيلسوف (( برتراند راسل )) , وفي نفس السّياق يعرّف عالم الأحياء (( جيرمي غريفت )) الحبّ بكونه الإيثار الغير مشروط , أمّا الفيلسوف (( غوتفيرد )) فيعتبره السّعادة الّتي تحصل بإسعاد شخص آخر وهو ما يتماهى مع ما عرّف به أرسطو الحبّ بكونه إرادة الخير للآخر.

سقى الله كونفوشيوس , لقد قسموا الحب من بعده بطرق مختلفة , فمنها ما يتعلق بمدى عمق الحب وقوته مثل العشق والغرام والوله , ومنها ما يصف نوع الحب في علاقته بالمشاعر المختلفة مثل حب العقل وحب العشرة وحب القلب وحب الروح , وهناك تصنيفات فلسفية مثل حب الإله وحب العائلة وحب الصديق , بالإضافة إلى تصنيفات نفسية مثل حب الإعجاب والحب الرومانسي والحب غير المشروط , كما ان هناك التصنيف الإغريقي الذي يحدد سبعة أنواع رئيسية للحب : إيروس (الحب العاطفي الشهواني) , فيليا (حب الصداقة) , ستورج (الحب العائلي) , أغا بي (الحب غير المشروط) , لودس (الحب الترفيهي) , برغما (الحب العملي) , ومانيا (الحب المهووس) , وعندنا أعتبروا ان للحب أربعة أنواع : حب العقل : وهو أن ترتاح إلى إنسان وتتفاهم معه ولكن قلبك لا ينبض له ولا روحك تهفو إليه , وحب العشرة : وهو أن تعتاد إنسانا في حياتك وتأنس إليه وتجمعكما عشرات التفاصيل الصغيرة , وحب القلب : بأن يخفق القلب لرؤيته واسمه وصورته ويتألم لقسوته وابتعاده , وحب الروح : وهو أقوي وأشرس هذه الأنواع واندرها وأصعبها وهو ما يسمى بالعشق , ويضم أنواع الحب جميعا فيأسر عقلك وقلبك وجسدك وتفاصيلك , ويصهرها في إنسان واحد وهو فخ لمن وقع فيه , فلا خلاص منه ولا نهاية ولا ارتواء ولا شبع عنيف , ظالم لا مقاييس له ولا أسباب لا يعترف بالقوانين ولا يرضي بشريك ولا يكتفي كالنار التي تأكل كل شيء وتقول هل من مزيد وهذا الحب لا يفيد فيه عقل ولا منطق ولا يقتله هجر ولا قسوة ولا تضعفه مسافات.

 

ظهر مؤخرا مصطلح (( الحب الزاحف )) , وأصبح متعارفًا و شائعًا , و يشير إلى أحد معنيين : إما (( قصف الحب Love Bombing )) ,وهو شكل من أشكال العنف النفسي حيث يقوم شخص ما بإغراق شريكه باهتمام مفرط وهدايا ومجاملات في محاولة للتلاعب به والسيطرة عليه , أو قد يشير بشكل غير رسمي إلى نوع معين من الحب الحقيقي الذي ينمو ببطء ويصبح عميقًا ومتغلغلًا في النفس مثل (( التتيم )) في اللغة العربية , وهو الحب الذي يستبد بالقلب ويستعبده , وقد يكون هو الذي قصده المغني بقوله القاسي : (( حب تالي العمر جتال )) , كما في حب تالي العمرلعريان السيد خلف : (( على طولك اشعلني وصيح بيه الصوت , انه بطرك النفس بين الحيا والموت , وسير نبض دمي لشهكة الزردوم , حب تالي العمر علته من البسكوت , يا شايل حلاوة خوف الحديثات , ومحمل سحر ضحكة بنات بيوت , يا مايع ترافه اتهيب من احويك , خاف اصعب عليك وخاف بيدي تموت ,هلكد ما حلو راج الثمر بالعود , وحمر على شفافك كبل وكته التوت , يمعود دخيلك والكلب شيصير, من تكطع بتوته منين اجيب بتوت )) .

وفي نهاية المطاف , يبقى الحب ظاهرة أعمق من أن تُحصر في نظرية علمية أو تصنيف فلسفي , هو رحلة قلب لا عقل , تُقاس بالجهد المبذول لا بالنتائج , وتظلّ مسافاتها بلا أهمية أمام عمق جذورها , فالحب الحقيقي ليس مجرد شعور , بل هو إرادة خير , وإيثار لا مشروط , وسعادة تجدها في إسعاد الآخر , وبغض النظر عن تعدد تعريفاته وتصنيفاته , من حب العقل إلى عشق الروح , يظلّ الحبّ تجربة شخصية فريدة , هو ليس شيئاً يمكن امتلاكه , بل هو نهر متدفق من العطاء , لا يجفّ أبداً , فالاعتزاز بالرحلة نفسها , وليس بالوصول , هو جوهر الحب الذي لا يخطئ .