مقامة جبر الخواطر

مقامة جبر الخواطر

من الأشياء الإيجابية التي قرأتها عن المتصوفة هي جبر الخواطر , حيث يطلب من الصوفي ان يعالج اي خلل يراه ليستر على صاحبه ويخفي عيوبه , وبهذا المعنى قال حمدون القصار : (( إذا رأيت سكران فتمايل لئلا تبغي عليه بمثل ذلك )) , ومقتضى التوجيه ان تظهر من نفسك العيب الذي تراه في غيرك حتى لا تعتقد أنك أفضل منه , وحتى تكون له عونا على مواجهة تعيير الناس له أو سخريتهم به , وللمتصوفة حساسية حرجة تجاه هذه الأمور لحرصهم على عدم إلحاق الأذى بالناس بسبب ما يبدر منهم من أخطاء أو هفوات ,  وقد لقب أحدهم حاتم الأصم ولم يكن أصم , وإنما جاءته امرأة لتسأله عن مسألة , فخرج منها صوت , فانقبضت المرأة فقال لها على الفور : ارفعي صوتك , متظاهرا بالصمم , فارتاحت المرأة إذ بدا لها أنه لم يسمع الصوت الذي خرج منها ,

وحاتم هو أفغاني من أهل بلخ جاء إلى بغداد وفي لسانه لكنة فكان لا يجادل أحد إلا غلبه بالحجة فسأله بعض البغادة عن السبب فقال انها ثلاثة خصال : (( أفرح اذا أصاب خصمي , واحزن اذا أخطأ , واحفظ نفسي أن لا أجهل عليه , اي لا اتجاوز عليه في الكلام )) .

ما هو مفهوم جبر الخواطر؟ هو اصلاح النفوس بالمعروف ماديا و معنويا , وتطيب القلوب بالكلمة الطيبة , و إدخال البهجة والسرورعليها , و أعمارها بالحياة والمؤازرة المالية , والروحية , و النفسية  , وهو تعبير عربي يعني (( إصلاح القلوب )) , أو (( إدخال السعادة)) , ويعتبر من القيم الأخلاقية السامية التي تشجع على التراحم والتعاطف مع الآخرين , وإدخال البهجة والسرور في قلوبهم , يقول سعدي يوسف : (( سلامٌ على الغصنِ الذي ليسَ يوصَفُوألْفُ سلامٍ للندى , وهو رفرَفُ )) , ويقول الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير ) : (( أدب الشراب اذا المدامة عربدت  في كأسها ألا تكون الصاحي )) , فإياكم وكسر الخواطر فإنها ليست عظاما تجبر بل هي أرواح تقهر, فلنتعلم جبر الخواطر , فنحن لا نعلم ما تحمله القلوب .

في كتاب نزهة الخاطر بعبادة جبر الخواطر قال سفيان الثوري : (( ما رأيتُ عبادةً أجل وأعظم من جبر الخواطر)) , وقد أجمع اللغويون على أن الخاطر هو القلب , وعدم كسره خلق عظيم , ولو تحققنا فسوف نجد أن أغلب أحكام الدين قائمة على جبر الخواطر, فنحن نقدم واجب العزاء لجبر خاطر أهل المتوفي , ونزور المريض لجبر خاطره , وندفع دية الميت لجبر خاطر أهله , ولو انتقلنا من صفاء التصوف إلى واقع العراق المعاصر, وفي خضم التحديات الجمة التي يواجهها العراق اليوم , ستبدو الحاجة ماسة إلى استحضار قيم ومبادئ من شأنها أن تزرع الأمل وتلملم الشتات , ومن بين كنوز التراث الروحي الذي يزخر به تاريخنا , تبرز عادة جبر الخواطر لدى الصوفية كمنهج حياة يتجاوز حدود العبادة ليلامس جوهر المعاملات الإنسانية .

يعتبرجبر الخواطر من أسمى مقامات الإحسان في التصوف , ويعني مواساة المهموم , رفع معنويات المكسور, وإصلاح حال من ضاقت به السبل , إنه ليس مجرد قول طيب أو دعاء , بل هو فعلٌ إيجابي ملموس يهدف إلى إزالة الألم عن القلوب , وترميم النفوس المنهكة , وبث روح الطمأنينة فيمن يعاني , حيث يرى الصوفية أن جبر الخواطر هو من أعظم القربات إلى الله , لما فيه من رحمة وتراحم وتكافل اجتماعي , وعندما نتأمل واقع العراق اليوم , نجد أن هذا المفهوم بات ضرورة ملحة أكثر من أي وقت مضى , فالسنوات الطويلة من الصراعات والنزاعات , وما تبعها من أزمات اقتصادية واجتماعية , قد خلّفت وراءها آلاف القلوب المكسورة , والعائلات المنهكة , والنفوس التي فقدت الأمل ,فعلى المستوى الفردي, يعاني الكثيرون من الصدمات النفسية , الشعور باليأس , وفقدان الثقة بالمستقبل , وهنا يأتي دور جبر الخواطر من خلال مبادرات فردية صغيرة لكنها ذات أثر عظيم , كلمة طيبة لمن فقد عزيزًا , مساعدة شاب عاطل عن العمل في إيجاد فرصة , زيارة مريض في المستشفى , أو حتى مجرد الاستماع بإنصات لمشكلة أحدهم , كل هذه الأفعال البسيطة يمكن أن تكون بمثابة بلسم شافٍ للقلوب.

تحتاج المجتمعات العراقية إلى إعادة بناء الثقة والتآلف بين مكوناتها , فلقد أدت الانقسامات الطائفية والسياسية إلى شرخ عميق في النسيج الاجتماعي , يمكن لجبر الخواطر أن يساهم في رأب الصدع من خلال تعزيز ثقافة التسامح والمصالحة , والتركيز على الإنسانية المشتركة التي تجمع الجميع , والمبادرات المجتمعية التي توحد الجهود لخدمة المحتاجين بغض النظر عن انتمائهم , أو تلك التي تعمل على إعادة تأهيل المناطق المتضررة , هي أمثلة حية على تجسيد جبر الخواطر على أرض الواقع , وعلى المستوى المؤسسي , يمكن للدولة والمؤسسات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني أن تتبنى مبادئ جبر الخواطر في عملها , فبدلًا من التركيز فقط على الجوانب المادية , يجب أن يكون هناك اهتمام خاص بجبر الخواطر المعنوي للمواطنين , وتوفير الخدمات الأساسية الكريمة , وتطبيق العدالة , ومكافحة الفساد الذي يكسر ظهور الفقراء , وتوفير بيئة آمنة ومستقرة , كلها أشكال من جبر الخواطر على نطاق أوسع , تُعيد الأمل للمواطنين وتُشعرهم بقيمة انتمائهم لوطنهم .

في التطلع نحو مستقبل أفضل و لتحسين الواقع العراقي , يمكننا أن نستلهم من التصوف وجبر الخواطر دروسًا لتضميد جراح واقعنا العراقي , وهو ليس دعوة للعودة إلى الماضي , بل هو دعوة لاستعادة القيم الإنسانية النبيلة وتطبيقها في سياقنا المعاصر, إنها دعوة للتعاضد , والتراحم , والتكافل , وتضميد الجراح , فكل عمل طيب , وكل يد ممدودة للعون , وكل كلمة مواساة , هي لبنة في بناء عراق جديد , عراق تُجبر فيه الخواطر, وتُبعث فيه النفوس , ويُزهر فيه الأمل من جديد .

(( جبرُ الخواطرِ ذاكَ دأبُ أولي النُهَى وترى الجهولَ بكسـرهـــا يتمتَّعُ

فاجعل كلامكَ بلسمًا فيه الشِّفا  لا مِشرطاً يُدمي القلوبَ ويُوجِعُ  )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات