مقامة توقيت الأنسحاب

مقامة توقيت الأنسحاب

يسأل صاحبنا : (( هل الصباح دائماً جميل أم أنك أنت التي تجعليه جميلا؟  يا أول من ذكرته بصباحي , وآخر من تركته ليلة البارحة , صباحي يحن إليك , فماذا عن صباحك أنت ؟ ما بين روحي وروحكهمسة شوق لا يسمعها الا نبض قلبي وقلبك , قد تكونين بعيدة عن نظري , لكنك لست بعيدة عن روحي )) , يبوح ولا تبوح , يهيم ولا تهيم , يقترب و تبتعد غير مدركة انه لم تبق بالعمر بقية , وتنسى فى زحمة الحياة أنها امرأة طال بها العمر والصبر ,  ويخشى ان يكون منالها متأخرا , لتردد لها أنفاسه ألأخيرة : (( أتت وحياض الموت بيني وبينها وجادت بوصلٍ حينَ لا ينفعُ الوصلُ )) .

الى صاحبة الكلمات البسيطة , التي لا تسأل كثيرا , ولا تبوح بما يفوق , لكنها تترك الفراغات الذكية , ودعوة لاكتشافها دون خارطة , التي تخشى الاقتراب كثيراً , فالقرب يكشف العيوب , والكشف قد يجلب الخذلان , في داخلها جرحاً لم يُسمّه أحد , أو لعله شكٌ خفيّ , تبحث دائما عن مخرج , عن سبب للانسحاب , كأنها نوتة أخيرة في سمفونية لا جمهور لها واقفة على حافة الذات , تنظر إلى اللاشيء , وتهمس لصوته الداخلي :  (( كم مرة يجب أن أُولد من رمادي؟ وكم شمما للروح يحتمل القلب قبل أن يصبح حجراً؟ )) , علتها أنها لا تستطيع اجتناب الحب , بل في توقيت الانسحاب , هي لا تعرف متى تُطفئ الشمعة , ولا متى تعترف أن النسمة كانت وهما , وفي معرفة متى تكون رائحة الروح حقيقية , ومتى تكون مجرد سراب , ففي المكان الذي انتهت فيه الحكاية , لم يبقَ شيء سوى صدى صوتٍ يشبه نسمة , عبر هاتفٍ لم يعد يرن .

لماذا يلجأ المتجنب لهذا الأسلوب ؟ لأنه حين يشعر أن العلاقة تزداد قربًا أو عمقًا عاطفيًا , يعود لا شعوريًا لنمط طفولته : الانسحاب لحماية ذاته من الانكشاف , تفادي المواجهة لتجنّب فقدان السيطرة , ترك أثر ناعم يخلو من ((الذنب )) , لذلك يكتب رسالة شكر, لا لحاجة بالاستمرار , بل ليهرب دون أن يبدو قاسيًا , هي لا تعرف ان اللحظة التي يهزنا فيها زلزال الحب لأول مرة هي اللحظة الأجمل في حياتنا , ونحب أن يتوقف الزمن عندها , لأنه يبدو من المستحيل أن تتكرر مثل هذه اللحظة بنفس الجمال , وهي لا تعرف أنه مهما بلغ عمر المرأة , سيظل هناك رجلٌ يُعجب بها , وكل عاشق يعتبر حبيبه هو المثال الأعظم للجمال , و سرّ الحب أن يبدو الحبيب ملاكًا , حتى وإن لم يكن جميلًا ولطيفًا , و من كان عقله نقيًا , كان حبه نقيًا , فلماذا حين يمحقها الحزن , تنحني لتلثم أيامها المشوبة بنتفة فرح كانت في أحلامها, وببعض ارتباك ؟ ولماذا تخبوا المواجيد في القلوب العاشقة ؟.

لا يجتمعان , الخوف والحب مشروبان لا يمتزجان ,  اما أن تموت ارتواء , أو تموت من الظمأ , و العاشق لا يقف على الشاطئ يكتب الأشعار, عن سحر الأشياء,  لكنه البحر الهائج , وغضب الأمواجالهارب أبدا من عواطف التردد , لا يعترف بالحدود والخطوط الحمراء , جامح  ,متطرف , لم يكن العشق أرضا ممهدة تغرد فوقها الطيور, ومفروشة بالورود , الحب كأنه السير فوق أرض ملغمة , تفصلها الأسلاك الشائكة والخرابات والسدود , والخوف والحب كالزيت والماء,  متنافران متخاصمان كألد الأعداء , وهناك منْ يختار العداء السهل الذى يسبب الخراب والجدب والدمار , وهناك منْ يختار العداء الخطر لكنه المانع ضد الانتحار والانهيار.

يقول طرفة بن العبد : (( وأمرّ ما لاقيتُ من ألم الهوى قربُ الحبيبِ وما إليهِ وصولُ  , أيا بدرًا كم سهرتْ عليكَ نواظري أيا غُصنًا كم ناحتْ عليكَ بلابلُ )) , يشبّه المحبوب بالبدر والغصن الجميل , وتغزّل فيه بعينيه التي سهرت , والطيور التي غنّت له حزينة , (( البدرُ يَكمُلُ كلَّ شهرٍ مرَّةً وهلالُ وجهكَ كلَّ يومٍ كاملُ )) , البدر لا يكتمل إلا مرة بالشهر, أما وجهك يا محبوب , فهو مكتمل الجمال كل يوم , (( أرضى فيغضب قاتلي فتعجبوا يرضى القتيل وليس يرضى القاتلُ )) , يا للعجب , أنا – القتيل من حبك – راضٍ سعيد , أما قاتلي (محبوبي) فهو غاضب , (( قتل النفوس محرمٌ لكنّه حلٌّ إذا كان الحبيبُ القاتلُ )) ,حتى القتل يصبح مباحًا إن كان القاتل هو الحبيب , يا لجنون الهوى , هذه الأبيات تلامس القلوب , وتحكي حال كل عاشق ذاق نار الهوى , فأي بيت أعجبك أكثر؟ وكم مرة كنت كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ؟ )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات