14 نوفمبر، 2024 7:42 م
Search
Close this search box.

مقامة امنيات مظفر الثلاث

مقامة امنيات مظفر الثلاث

أعاد الدكتور ظاهر شوكت نشر جزء من قصيدة مظفر النواب )ثلاثة أمنيات على بوابة السنة الجديدة(, ومظفر يسكب بشعره الملح على جروحنا , وقالوا عنه الشاعر المناضل , ووصفوه بمنشور سرّي تحول بسبب حب جماهيره إلى منشور علني , أما ألصقُ الألقاب به فكان ( شاعر القصيدة المهرّبة ) , إنه الشاعر المثير للجدل والدائم الخروج عن النص , ابن الناس الناطق بنبض قلوبهم وزفرات صدورهم , ملك الهجاء السياسي الذي أرَّق العروش العربية , قصائده الصارخة الساخرة تعمر بيننا طويلا , ذلك أنها تحكي نكباتٍ ممتدة , وخذلانا مستمرا , وقهرا ما زال جاثما على الصدور.

((هذوله احنه سرجنه الدم عله اصهيل الشكِر..يسعود
خليًنه زهر النجوم.. من جدم الحوافر سود
تتجادح عيون الخيل وعيون الزلم بارود
وياخذنه الرسن للشمس من زود الفرح ونزود
يسعود احنا عيب انهاب يا بيرغ الشرجيًه

هذي يشامغ الثوار تبرج نار حربيه )) .

ولد مظفر في بيت أرستقراطي , لكنه لم يكن يدري أنه سيضيع عمره بين السجن والمنفى بسبب ما تخطه يداه من أشعار, رآها البعض تعكس نبض المعذبين والمقهورين , ورأى آخرون أنها تجاوزت حدود اللياقة ونالت من الحكام والزعماء , فوضعته أشعاره في كشوف الترقب على بوابات المطارات والحدود العربية , ورغم المنع ظلت قصائد النواب سوطا يجلد ظهور من كانوا سببا في الخذلان والنكبات العربية.

((علكنا لك عله الصوبين علكه, عيون مشتعله
بنادقنه تطرز الليل تضوي الكلفه والسهلة

تحذر ياشهم يا سعود حكام المدن دفله
لا تامن حجي بلا ساس يا بيرغ الشرجيه
عين الذيب عيب تنام من اتصوفر الحيًه)) .

هكذا يمكن معاينة الشاعر العراقي الكبير مظفر النواب ورصد فضاءاته الشعرية من دون الخوض في جدليات عقيمة عن الشقة الواسعة بين الواقع المفترض القناعة به , وبين متخيّل ليس بالعسير تحقيقه , إن أضحى إيمانا لدى الآخرين بجدوى النضال لتحقيقه , ومظفر من الشعراء الذين طابقوا تماما بين نتاجهم الإبداعي وحياتهم , إلى درجة تدفع لمقارنته بالتشيلي بابلونيرودا والإسباني غارثيا لوركا.

(( هذوله أحنه نحد السيوف بركاب الصكر والذيب
ما نترك أثر يا سعود من أنغير…بس الطيب
وتمولح عيون الخيل عجه اتطر وعجه اتغيب
ينخل فشك ليل الموت وعيونك ,ليالي زبيب
يسعود احنا عيب نهاب يا بيرغ الشرجيه
نجمة الغبشه تانينه على حدود الحرامية )) .

يقول مظفر : ((أصغر شيء يسكرني في الخلق فكيف الإنسان ؟)) , والسؤال هنا لفرط وجعه يبدو مغمسا وملوحا بهجير المعاناة الإنسانية , ولا يتورع النواب عن الإفصاح عن انحيازه التام للإنسان , وكمعظم الشعراء العمالقة يعنى مظفر بالإنسان المهمّش المقهور مجتمعيا , ويعترف أنه في وجعه وحزنه لا يقل عن الأول أسى وغضبا , ((أيقتلك البرد ؟ أنا يقتلني نصف الدفء , ونصف الموقف أكثر)) , وهنا يخاطب مظفر فتاة الليل التي كانت تعاقره وحدته عن بعد , ربما في ( حانة قديمة ) , يحنو عليها مدركا البرد الذي يتغلغل في عظامها , علاوة على البرد الذي يأكل روحها , لكنه يستذكر موته البطيء بالدفء الشحيح الذي يحصل عليه , فلا هو ببرد كامل ولا دفء كامل , ليحيل الأمر برمته إلى الموقف أيضا , فنصف الموقف الذي يشكل دائما منطقة وسطى ولونا رماديا , يتجاوز أرباك مظفر إلى قتله.

يتساءل المرء عن ( الحانة ) مثلا عند مظفر, تلك الحانة التي تتموقع دائما في شعره ليس بوصفها ( مكانا ) , وإنما بصفتها ( حالة ) , وهي تبدو شديدة التماس مع جذر صوفي يلوح في إطار الكشف والخمرة والنشوة , فالسكر الذي تتسبب به الحانة كحالة يتسبب بدوره في ( الكشف ) العميق , وفضح الأشياء وتوجيه الخطاب إليها بحالتها المجردة الشديدة الواقعية , ونشوة السكر في هذه الحالة تتعدى المعنى الدارج إلى معنى المعرفة أو بالأصح (العرفان الصوفي ) , وطالما أن المرء ( كما الاسفنجة , يمتص الحانات ولا يسكر) , يضحي فعل السكر هنا بمعناه الوجودي , أي السكر بالوجود , وهنا نشير للمأثور عند (الصوفية) , ((سقاني شربة أحيا فؤادي بكأس الحب من بحر الوداد )) .

أحدث المقالات