مقامة المهذب الرقيق

مقامة المهذب الرقيق

أختار صاحبنا من كتاب ( مع الانسان في الحرب والسلام ) لفتحي رضوان  الصادرعن دار المعارف بمصر, ص١٦٦: (( وحين عاد غاندي من لندن التي درس فيها الى بلده الهند , ادرك الحقيقة المرة التالية : أن الاوربي المهذب الرقيق , في لندن ، يصبح في الهند وحشا ضاريا , يفتك بالناس  )) , هذا النص جعلني أترحم على أستاذ مادة المذاهب الأقتصادية في كلية العلوم السياسية بجامعة بغداد (( أبراهيم كبة )) , حين كان يشرح لنا ان الحياة المنظمة والترف والرفاهية , والممارسة الديمقراطية التي نراها لدى الغرب ليست سوى نتاج تكدس الأموال الهائلة التي جائتهم من عملية النهب الأستعماري للشعوب المغلوبة على امرها , ألأمر الذي انعكس على اخلاق مهذبة قد تبدو راقية ومثالية لمن لم يطلع , على المآسي والكوارث التي أحدثوها في البلدان المستعمرة .

سبق ان نشرت (( مقامة النهب الاستعماري )) ,  تشير إلى الممارسات والمخلفات السلبية للاستعمار التي تركز على الاستغلال المنهجي للموارد والثروات والكنوز الثقافية والاقتصادية للأراضي والشعوب الخاضعة له , يشمل ذلك نهب الموارد المادية , مثل الثروات الطبيعية والمعادن , وسرقة القطع الأثرية والتاريخية , بالإضافة إلى فرض هيمنة اقتصادية وثقافية وسياسية , مما يؤدي إلى الفقر وعدم المساواة والتجريد من الملكية والأرض بالنسبة للمستعمَرين , وذكرت فيها انه في عام 1995 كان عاما شاقا على العراقيين بسبب الحصار الظالم وعرقلة الأدارة الأميركية لجهود التوصل الى صيغة أتفاق النفط مقابل الغذاء مع الأمم المتحدة , كلفت حينها بمهام المرافقة والترجمة لسناتور أميركي متقاعد وصل بغداد لحلحلة الموضوع وتسهيل العقد والصعوبات لأمرار وتبسيط أجراءات العمل بالقرار , بالطبع بعلم الأدارة الأميركية وطمعا منه بالحصول على قسم من عقوده , رافقته في معظم لقائاته مع وزراء ومسؤولين مترجما او مسجلا لفقرات وتفصيلات مايتحدث به , وكنت اعود به الى فندق الرشيد حيث اسكناه حينها  , في مرة من المرات وبسبب انهاء جدول مقابلاته مبكرا أخذته الى نادي الصيد حيث تناولت معه طعام الغذاء , وجرى حوار بيننا شرح لي كيف تقوم الدول الكبرى بنهب الشعوب , وتقوم بتكديس الأموال لديها والتي تنعكس بتلك الرفاهية والحياة الرغيدة لشعوبها , قال لي نحن نشتري برميل النفط من منطقتكم بسعر تلك الأيام 18 الى 22 دولار , ولنقل انه يصلنا بسعر 40 دولار , تقوم مصافينا بفرزه الى مشتقاته المعروفه لتبيعه بسعر 440 دولار للبرميل , ثم تقوم معامل البتروكيمياويات في أميركا وأوروبا بأدخاله في الصناعات المختلفة ( البلاستك والاصباغ واللدائن والأسمدة والمبيدات ….الخ) ليصبح سعر هذا البرميل 1640 دولاراً  , لاحظ الفرق بين سعر الشراء 18 دولار وسعر البيع 1640 دولار,  عدت الى دائرتي وكتبت تقريرا الى رؤسائي , وتذكرت وانا اكتب الموضوع كيف أن مشروع مصنع البتروكيمياويات لدينا قصف بشدة ودمر مرتين الأولى عام 1980 من قبل ايران والثانية عام 1991 من قبل التحالف الدولي وعرفت وقتها فقط السبب في ذلك .

على مدار التاريخ , ارتبط الاستعمار بالسرقة ونهب المقدرات وإفقار الشعوب , رغم زعمه بأنه جاء للتعمير والبناء والتثقيف ومحاولة إخراج الشعوب من ظلام الجهل إلى نور المعرفة , كان المستعمرون يقيمون المشاريع ويشقون الطرق والسكك الحديدية لتسهيل عمليات سرقة ونهب الدول التي يدعون أنهم كانوا سببا في عمارتها ففي الهند مثلا , أقام الاحتلال البريطاني شبكة سكك حديدية لنقل القطن والمعادن من مختلف المناطق إلى موانئ التصدير وليس لربط هذه المناطق كما كانوا يزعمون , وفي الكونغو , قام المستعمر البلجيكي باستغلال العمالة المحلية لبناء السكك الحديدية من أجل نقل المطاط والعاج إلى الخارج وقد قتل مئات آلاف العمال خلال علمية إنشاء هذا المشروع , والأمر نفسه في الجزائر, نهب الاستعمار الفرنسي الكثير من الأراضي لشق سكك حديدية بغية تعظيم الاستفادة من موارد المستعمرات في أفريقيا من خلال نقلها عبر البحر وهو ما تطلب إقامة مشروع السكك الحديدية في الجزائر.

في الختام , يكشف هذا التناقض الصارخ بين وجه الحضارة الناعم وقناعها الخشن عن حقيقة مرة : أن ما يبدو لأعيننا اليوم من رفاهية وتطور في الغرب ليس سوى ثمرة لعملية نهب ممنهجة وطويلة الأمد , امتدت عبر القارات والقرون , إن قصة السناتور الأمريكي , الذي كشف ببرود عن الأرقام التي تترجم برميل النفط إلى ثروات هائلة , ليست سوى تأكيد إضافي لما كان أستاذنا إبراهيم كبة يعلّمنا إياه : أن نظام الاستعمار لم يمت , بل تغيرت أدواته , لم يعد الأمر يقتصر على السفن التي تحمل المدافع , بل أصبح يعتمد على القوانين الاقتصادية , واتفاقيات التجارة , والسيطرة على مقدرات الشعوب من خلال آليات معقدة , تضمن استمرار تدفق الثروة من الأطراف إلى المركز, وهكذا , يبقى (( المهذب الرقيق )) في وطنه , بينما يستمر (( الوحش الضاري )) في نهب العالم , تاركًا وراءه شعوبًا منهكة لا تزال تحاول استعادة ما فقدته في معركة غير متكافئة.

أحدث المقالات

أحدث المقالات