لكل زمن صانعوه منذ الخليقة , العلماء والفلاسفة والساسة ورجال الدين , نعيش الآن زمناً يتحرك بسرعة ,لا نكاد نستوعب ما تحقق من تغير فوق الأرض , حتى نجد أنفسنا أمام مستجدات فيها الكثير , فنستذكر قول معاوية بن ابي سفيان : (( معروف زماننا منكر زمان قبله , ومنكر زماننا معروف زمان سيأتي , وأذا أتى فالرتق خير من الفتق )) , لقد قال الراحلون القدامى: (( من تمنطق فقد تزندق)) , والعصر يقول اليوم , من لم يتمنطق, فقد تخندق في حفر الظلام البهيم .
ما فات مات قالها قس بن ساعدة قبل بزوغ الإسلام , فهل أدركناها ؟ الواقع المعاصر يشير إلى أننا نتخندق في الفائتات , ولا نأبه للآتيات , ونستلطف الغوص في دياجير الغابرات , فلا ضوء في نهاية أنفاق متاهاتنا الظلماء. عالم يسير للأمام ويتسلق سفوح الأمجاد بالإختراع والإبتكار والتنافس الإبداعي المطلق , ونحن نندحر في نقاط زمنية , ونحسب الأرض متوقفة عن الدوران , فلا جديد , بل إعادة للقديم والعيش في رحم الغابرات , ولا قدرة على التفاعل مع الآتيات.
يقول هيغل : (( أن الفكرة التي تزوجت في هذا الزمن ,ستكون أرملة في الزمن القادم )) , لأن الزمن يتحرك ,لكنه لا يغيب , تلكما قضيتان أو أمران , شكَّلا حلقات مهمة في مسيرة الفكر الإنساني , العقل والزمن ,الفلاسفة صنعوا القوة المضافة الدائمة إلى قدرات الإنسان, حيث العقل حقل الحياة , تزرع فيه بذور الفكر,وسماده المعرفة المتجددة , وماؤه الحرية , فتنبت سنابل العصور المتحركة في حقول كل زمن , وتجود الأشجار بثمارها المختلفة , ولأن للزمن فصوله , ولكل فصل محاصيله , فلا يُزرع القمح في الصيف , وللفكر غربال ينتخله , يسقط منه ما طحنته السنون , ويدفن في حفر الماضي , لتنبت في حقول العقل بذور فكر جديدة ,تسقى بماء آخر , ينبع من آبار زمن جديد.
روى أن اصنام الجاهلية السادة المبجلين ( اللات والعزى وهبل وود وسواع ويغوث ونسرا) هي بالأصل أسماء لشيوخ صالحين , وعندما يموت احدهم يقوم القوم بنحت تمثال له كنوع من التقدير على جهوده النبيلة في خدمة القبيلة ,أما نحن فقد فاقت علينا الجاهلية عندما صنعنا تماثيل للرِعاع والأوباش والسفلة ورفعنا قدرهم وقدسناهم, ولأنهم قالوا : (( مَنْ عَرَفَ أَنِسَ , ومَنْ جَهلَ استوحشَ )) , وأن (( التَعَالُم قاد الجاهلَ إلى الزَّلل ,ولو قال: لا أعلَمُ ,لنَجَا وسَلِمَ )) , فأن اكبر منجز يحققه السياسي صاحب المبادئ , هو ان يحافظ على مبادئه في زمن اللا مبادئ , ليكون مرتاح الضمير و ناصع الصفحة امام الشعب و التاريخ , وهكذا وجدنا أنفسنا بعد زمن كانت فيه المقاهي تثقّف , أصبحنا نرى الجامعات تخرّج جهله .
استمرار (العقل والمنظومة السياسية والثقافية والاجتماعية السائدة) بالمراوحة خارج سيرورة الزمن ,بهدف تضليل الناس وإشاعة الجهل حفاظا على المصالح الخاصة لأهل الحل والعقد , ((وخداع نفسك أشد وأقسى من خداع الآخرين لك)) , لقد حاول علي بن أبي طالب أن يعيد زمن الخلافة بيد أنه فشل فشلا ذريعًا, كان زمن الرسول وأبو بكر الصديق وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان قد ولى إلى ما لا نهاية, فبعد نهب الدول المجاورة وتكدس الأموال في أيدي الناس في شبه الجزيرة العربية تغيرت أشياء كثيرة جدا, المال السائل والغزير غير النفوس والعقول والاخلاق وطريقة التفكير والحاجات والمهمات, مضى على زمن الخلافة أكثر من 1400 سنة, وما زال هناك بعض الخرف يريدون عودة زمن الحرب بالسيوف إلى سابق عهده.
كتب عبد الرحمن شلقم وزير الخارجية الليبي ألأسبق : (( في كل يوم يبدع لنا مَن يوصفون بالعلماء عشرات الممنوعات والمحرمات , البسوا ولا تلبسوا , قولوا ولا تقولوا, افعلوا ولا تفعلوا , اسمعوا ولا تسمعوا , انظروا ولا تنظروا, لماذا يا سادتنا العلماء , ليس بينكم من يحرّض الشباب على القراءة والبحث العلمي , ومن يقرأ مناهج التعليم ويدعو إلى اشتباكها مع دفق العصر الجديد ,علماؤنا الحقيقيون يفرُّون إلى دول تتجدد فيها أضواء الأنوار , يعلمون ويبحثون ويخترعون , في حين يهاجر من يصفون أنفسهم (بالعلماء) في أوطاننا , يهاجرون إلى حفر أزمنة أرامل , ويجرّون لها أجيالنا الوليدة , ويفتون لهم بما يهديهم إلى غيبوبة الجهل والتخلف والعنف والإرهاب , المرأة هي الميدان , الذي لا ينقشع غبار معاركه العظيمة , التي يخوضها علماؤنا , هي مجمع العورات الذي تلاحقه اللعنات المزمنة , السؤال الذي يفتح الأبواب لعشرات الأسئلة , هل سأل علماؤنا , عن عدد النساء اللاتي حصلن على جائزة نوبل في مختلف المجالات ؟ لقد فازت 16 امرأة بالجائزة للسلام , و14 امرأة في مجال الأدب , و12 امرأة في الطب وعلم وظائف الأعضاء , واثنتان في مجال الفيزياء , هذه القامات العظيمة التي وهبت للإنسانية , علماً دفع بها إلى زمن جديد , تراجعت فيه الأمراض , وانتصر عليها الطب , وتعملقت فيه القدرات العقلية للإنسان , ما زال (علماؤنا) يتصارعون على معضلة شعر رأسها , ولون ملابسها , وطبقة صوتها، إلخ)) .