يقول المرحوم سعد محمد الحسن (( اذا تشرب مروره ومن تنام بنار, محسوده عليمن عيشة الدلة ؟ الناس تلم عنب ويدورون سلال , المثلي يلم دمع شيسوي بالسله ؟ )) ,
هذه هي الحياة , شيء جدي أكثر مما يتصور الناس , ومن يريد أن يحيا عليه أن يغامر كثيراً , أن يكون شجاعاً , نحن من يليق بنا الصبر نزدان به وتبقى عزيمتنا مقيدة الى نهاية الرحلة , حتى يمل الصبر منا , ولأنه لا يقوى عليه , الا من كان صلب العزيمة , وقور كالجبل الشامخ , تمر علية الحالكات , لا يأبه بها , وضع أمام ناظريه الظفر بما يريد والرضى بما قسم له .
يقول جلال الدين الرومي : (( إنهم مشغولون بالدماء , بالفناء ,أما نحن فمشغولون بالبقاء , هم يدقون طبول الحرب , نحن لا ندق إلا طبول الحب )) , و(( بشر الصابرين )) , تأتيهم البشارة بعد الجهد والمشقة والمرارات , ذلك أن صبرهم لم يكن صبر السكون والموت والجثث الهامدة , بل كان صبر الفاعلين , صبر المصرِّين على انتزاع معنى جديد للحياة , معنى الحياة الحقيقية , وكلما حاولت الهروب من مرارة الواقع , تأتي الحياة بمواقف تؤذى قلوبنا , وتزيد اوجاعنا اكثر, واكثر , ونشعر كأن الحياة تعالج احزاننا بالوخز بالإبر, حتى اصبحت اكثر امانينا ان نقتل افكارنا , ونفقد ذاكرتنا , لنعيش فى هدوء , والبعد عن كل شىء يبكينا , فالذي لم يتذوق مرارة الفقر , لن يفهم كيف تعز على الفقير نفسه , حين يُظلم أو تحاصره أعباء الحياة , ويبدأ الأخرون بإذلاله , وستبدو دمعة ألمه , بالنسبة لهم , وكأنها دموع الفرح .
يقول ألأمام علي : (( بالعافية توجد لذة الحياة )) , لن تُبتلى بشيءٍ في هذه الحياة أشدُ مرارةً من معاشرةِ اللئام , وقد لُقب حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث الكندي بآكل المرار لأن ملكاً سبى ابنته فقالت : (( كأني بأبي قد أتاك هادراً كأنه جملٌ أكل المرار )) , لأن الإبل إذا رعته قلصت مشافرها ,وقيل لأنه أكل وأصحابه في غزوة من شجر المرار , هذا هو المُرار , وهو نبات له زهرة شوكية , يقول واسيني الأعرج : (( العواطف شفافة مثل الزجاج , عندما تتشقق تنتهي , كل محاولة لرتقها لن تزيد الشقوق إلا اتساعا )) , ونحن نحتاج شيئًا لطيفًا , مُفاجئ غير مُخطط له , يأتي من دون توقع , شيء جميل مُفتقد , يكسر الروتين المُهلك , ويُبعد الغمة , نحتاج فقط شيئًا يُفرح القلب , ويخفف كل ما مر بنا من مرارات .
ما أصعب الشرق الأوسط , أرض فِخاخ ومشقّات ومفاجآت , فماذا نفعل والجرح المغلق عصيّ على التّطهير , ونيتشه يقول : ((القطيع ينبذ المفكر, لأنه يمثل تهديداً لوجوده , فالقطيع لا يفكر بل يتبع )) , وهذا البير كامو يكتب في روايته la chute )) :)) :
إن الرعب الحقيقي في الوجود ليس الخوف من الموت , بل الخوف من الحياة , إنه الخوف من الإستيقاظ كل يوم لمواجهة نفس الصراعات , نفس الخيبات , نفس الألم , إنه الخوف من أن لا يتغير أي شيء أبدا , وأن نكون عالقين في دائرة من المعاناة التي لا مفر منها , وداخل هذآ الخوف تنشأ رغبة , رغبة في شيء , أي شيء يكسر الرتابة , ليمنح معنى للتكرار , الذي لا نهاية له للأيام )) , فكيف تكون المرارة أذن ؟
قال حسّان بن ثابت الخزرجي الأنصاري , في قصيدة قالها رداً على شاعر الأوس قيس بن الحطيم : (( وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ * وَإِنِّي لَتَرَّاكٌ لِمَا لَمْ أُعَوَّدِ )) , والمرارة : ضد الحلاوة , وقوله: (وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ ) : كما يبدو مني لطف المعشر إلا أني إذا اضطررت بدا مني صلف وجفاء , فكما أنفع فإني أضر , إذا استفزني أحد وأخرجني عن طبيعتي , كان العباس يتكلم مع ابن أخيه بصوت تملأه المرارة : (( لم أرفعك في شيء الا رجعت الي مستأخرا بما أكره, أشرت عليك عند وفاة رسول الله ان تسأله فيمن هذا الأمر , فأبيت, وأشرت عليك بعد وفاته ان تعاجل الأمر فأبيت , وأشرت عليك حين سماك عمر في الشورى ألا تدخل معهم , فأبيت , أحفظ عني واحدة , كلما عرض عليك القوم فقل لا , الا ان يولوك , وأحذر هؤلاء الرهط فأنهم لا يبرحون يدفعوننا عن هذا الأمر , حتى يقوم لنا به غيرها , وأيم الله لا يناله الا بشر لا ينفع معه خير )) .
يقول المتصوفة : (( مَن يَدخُل الطَريِق بِلا مُرشد , سَيستغرق مِائة عَام فيِ رِحلة لا تَحتاج سوى يَومين )) , مملة تلك الحياة الباذخة , فهي بلا طعم , لأن حلاوتها لاتعرف المر , والشعور بقيمة الأشياء يكون في تذوقك ما هو ضدها , فلولا معرفتك طعم المر سوف لاتعرف قيمة طعم السكر ¸ولولا الضيق الذي نمر به أحيانا سوف لاتعرف قيمة السعة والمال , تقول أحلام مستغانمي : (( وكم ذُقنا المرارة مِن ظروفٍ برغمِ قساوةِ الأيامِ لانتْ , هي الدنيا لنا فيها شؤونٌ فإن زينتها بالصبرِ زانتْ )) , يتداول العراقيون مثلا شائعا بينهم وهو ((يفت المرارة )) , أو (( گاعد بالحارة ويفت المرارة )) , وما وجد الصبر واللين في شيء الا زانه , يحل اغلب الخلافات , ويجمل معظم العلاقات , ويبان معدن الإنسان وحقيقته في وقت الضغط والأزمات , وقدرته على الصبر والعفو واللين , أما في غيرها من أوقات الرخاء , فالناس غالباً كلها حلوة , ومهما كان الصبر مُراً فإن عاقبته جميله.