أستهل المندلاوي الجميل أيام العيد ببكائية تقول : (( في الانتظار مرارة لا يتحسسها الا من يكون وقودها )) , ويردفها بمقطع من قصيدة (( ياريحان )) لمظفر النواب : (( ما جيت ونيمني البرد والشتا مر وتعدى , لا بالمحطة رف ضوة ولا ريل مر عالسدة , لاريل مر عالسدة )) , ويختمها بعبارة : (( كان الله في العون )) , يدهشني هذا الثمانيني , كلّما اقتربتُ منه ,يبتعدُ المعنى , وكلّما ابتعدتِّ , أكتبه أكثر , يتألم بلوعة المرارة , مما ذكرني بقصيدة الشاعر الجاهلي ابراهيم الجعبري : (( غيري علي السلوان قادروسواي في العشاق غادر, لي في الغرام سريرة واللَه أعلم بالسرائر , ومشبه بالغصن قلبي لا يزال عليه طائر ,حلو الحديث وانها لحلاوة شقت مرائر )) , فأريد أن أصرخ مثل يوسف عمر حين يصيح بها على مقام الرست .
ما أصعب أن تبكي بلا دموع , وما أصعب أن تذهب بلا رجوع , وما أصعب أن تشعر بالضّيق وكأنّ المكان من حولك يضيق , هذا مايحدث عندما يتشابك غزل الروح , كما يصفه زهيري الشاعر سيد صادق الصافي : (( مخلبص غزل روحي بمغزله تخلبص , واليغزل ثمل ومسودن ويرعص , مدافر للصبح وياه ولعد شمس العصر شبگات وإتحرمص , بلچن ينعدل ويطيب وبلجن بالصدف يچنص , اجاني مكطع الغزلات والمغزل جديد وكاسره من النص , جثيرة الفرهدت شبعت وانا بلگمة حلال وكال بيه يغص , يظل گلبي گلب سمچة يغريه الطعم ويكظه غفله الشص )) .
كيف تنطلق المرارات ؟ الفراق حديثه الصمت , وعندما يفيض بنا يكون لسانه الدموع , لا ندرى أنبكى عليهم أم نبكى على أنفسنا , القلب كان ملكاً لهم هم , ولكن عند فراقهم يصبح القلب فارغاً باهتاً كأنما هو متعلق بهم وحدهم , وكأن الأرواح كانت متصلة بحبل من الوداد فانقطع ذاك الحبل فجأة فتمزقت قطعة من روحك فتتقيد بألم كبير وحزن لا يفارقك أبداً حتى وإن تظاهرت بعكس ذلك , تغيب شمس الأحبة عن سمانا فيصبح الكون كلّه ظلامٌ دامس , يصبح الكون كله من دون أيّ ألوان وملامح أو أصوات , لم يعد سوى صدى أصواتهم ترنّ في أذانِنا , لم نعد نرى سوى صور وجوههم , لم نعد نتذكّر سواها , لم نعد نتذكر سوى نظرات أعينهم عند وداعنا.
اسألوا أصحاب الشيب عن الحب , فهم وحدهم من ذاقوا مرارة الفقد وحلاوة اللقاء , وشاهدوا الحب في أصدق حالاته : حين يشيخ الجسد ويظل القلب فتياً , ينبض بالحنين ويستمد قوته من الذكريات , الحب عند أصحاب التجربة ليس لعبة يتسلى بها القلب , ولا نزوة تمضي مع الزمن , بل هو وعدٌ , وصبر , وقصة تُكتب بدموع الفرح والحزن معاً ,
أما صغار السن , فكثير منهم اتخذوا الحب زينة لحياتهم , دون أن يدركوا عمقه أو ثمنه , يلهون به كما يلهو الطفل بألعابه , يختبرونه دون خشية الخسارة , ويسيرون فيه بخفة كأنهم في نزهة , لا يدركون أن الحب الحقيقي جذور تمتد في الروح , وأنه حين ينكسر يترك أثراً لا يزول , الحب ليس شعراً يُقال ولا أغنية تُغنى , بل هو اختيار يومي , أن تبقى وتوفي , أن تعطي دون انتظار المقابل , أن تُدرك أن الأيام ستأخذ منك أشياء كثيرة , لكنك ستبقى متمسكاً بالروح التي اخترتها رفيقاً لحياتك , فاسألوا أصحاب الشيب عن الحب , فهم مَن عاشوا التجربة وخرجوا منها بحكمة ووجع وقلب لم يزل يؤمن .
من لم يذق مرارة الحب لن يعرف طعم حلاوته أبدا , يقول دوستويفسكي عن مرارة الحب بحزن عميق في رواية في قبوي : (( يستحيل عليّ أن أحب , ذلك أن الحب إنما يعني في نظري الاستبداد والتسلّط الروحي , إنني لم أستطع في يوم من الأيام أن أتخيّل الحب في صورة غير هذه الصورة , وقد بلغت من ذلك أنني ما زلت حتى الآن أرى في بعض الأحيان أن قوام الحب هو أن يهب المحبوب للمحب حق الاستبداد به )) , مؤلمة تلك الدمعة التي تسقط وأنت صامت , تسقط من شدة القهر والألم والاحتياج , وعذاب الشوق قاسٍ إذا صار صامتاً مثل طفل يفهم ولا يعرف البوح , وقد يصادف الشخص في حياته مشاعر حب ممزوجة بعذاب الحب ولوعته من فراق , وشوق , وحنين , فيعيش صريع الحبّ طوال حياته لا سيما إن ابتُلي بحبيب قاسٍ وغير مبال .
يقول زهيري الشاعركاظم اسماعيل كاطع :
(( اصل الشفايف عسل واصل العسل منتمر
حته بعذابك حلو كلك حلو منتمر
ازرع ادروبك ورد ويخضرن من تمر
كون اوصل لرگبتك واندگ عليها وشم
وبخدك اگضي عمر بين اللوايح وشم
يا اجمل الناس يحبيب وطيب وشم
بس نعتب اعليك متدك بابنا من تمر )) .