27 يناير، 2025 10:29 ص

مقامة اللي مضيع وطن

مقامة اللي مضيع وطن

وطن باعوه رخيصا , في قصيدة (اللي مضيَّع ذهب) يصرخ الشاعر كاظم اسماعيل الگاطع بكل طاقته بوجه الغربة قائلاً : (( بالغربهْ شِفت التَعب وإتعلٌمت معناه , وإتعلٌمت عالسهرْ والسكتهْ والصفناهْ , ذلٌيت ذلْ النهر من ينكَطع مجراهْ )) , ثم يمضي في طرقات البعد والفراق والوجع والأيام الباردة باكياً فيقول : (( اللي مضيَّع ذهب بسوگ الذهب يلگاه , واللي يفارگ محب  يمكن سنة وينساه , بس اليضيَّع وطن  وين الوطن يلگاه ؟ )) , قصيدة مؤثرة وموجعة , بكى كل من سمعها في داخل الوطن , فإذا كان تأثيرها الى هذه الدرجة على القريب , فلك ان تتصور كيف يكون تأثيرها على من يعيش بعيداً عن حضن الوطن؟

يعشقون الوطن , وعند الحدود يُرقّنونه , حلموا بهساخنًا طازجًا ورخيصًا , خفافيش الأرض الخراب ,أولئك المتأنقون , وبالنفط متعطرون باعوه ساخنًا طازجا , يتجشؤون
ناسه , وينحرون شبابه وعقوله , ويتخمون بطونهم من كأسه , فلن تتخثر الجراح , أيها الوطن المذبوح فينا , والممتد مابين خارطة الموت وحدود الجار , وبيوتٍ اغتسلت بزحمة الأموات , ونداءات الريح , نغنيك سلامات , أيها القابع في سدرة قلوبنا .

ومن الحب ما قتل , يقول توفيقي بلعيد : (( نحب الوطن ويحبون الوطن لهم الأفراح والمسرات ولنا الهم والحزن , يحبون الوطن ونحب الوطن لهم أجمل ما فيه ولنا التضحيات والمحن , يحبون الوطن نحب الوطن لهم مقالع الرمال وأعالي البحارْ لهم السهول والأنهارْ لهم النجوم والأقمارْ لنا التهميش والزنازن والإبحار لنا الإختفاء القسري والإقبار , يحبون الوطن , نحب الوطن , لهم كل ما فيه ولنا شبر وكفن )) .

أذكر عندما سمعت المطرب سعدون جابر لأول مرة في الثمانينات , وهو يكرر: وين الوطن يلقاه؟ شغلتني قصة الذهب والمحب , ولم أعر اهتماما لموضوع الوطن , فكيف بإمكان الوطن أن يضيع مني أو أضيع منه ؟ الوطن باق , أرض راسخة , جذورها عميقة تمتد لآلاف السنين , نحن نرحل وننتهي ونموت لكن الوطن يبقى دائما , أو هذا ما كنت أعتقده , قد نسخط على الوطن , ونغضب من الأنظمة ونظن أنها هي الوطن , نحزم حقائبنا ونشد الرحال , ونقرر ألا نعود ثانية , لكننا نعود في آخر المطاف ولو على شكل جثة هامدة , نطلب قبل أن نموت أن ندفن هناك بين ثنايا تراب الوطن , لم أخش أبدا أن يضيع الوطن , فهو كما علمونا كطائر العنقاء الذي ينهض دائما من رماده , وهو موجود في القلب والعقل من الجبل إلى الهور, بنهريه وبغداده .

(( تطأ حروفي عتبةَ وطنٍ يسكنني , يغوصني بأرتالٍ من الوجع , وخوفاً محمومًا عليه يحتضرني , وحزنًا قارعًا بين الجوانح , وألمًا ساخنًا يعتصرني وهذياناتٍ لمعتقداتٍ لاتليق بوطني , تسحقني بعجلات الطائفية والعرقية وتركلني بالمنافي وأنين المرافئ , تواطئت أجندة الغرب وأصابع العرب فتم اغتيالك , أثقلتك زج الرماح في أقلامك , أصابوا الطيبة فشيعوها , أسجفوا العشير طوائفَ , وأسرجوا الدستور عرقيًا , لَمَّ اللهُ شعثَك ياعراق , وبين رافديك سأقف لألملم شتات ظلي ونسيج الصمت في دجلة والفرات يئن الكلم في جوانحي ممزوجًا بدم الأحبة ووحشة الغربة فقايضني الألم بحورًا وحسرة تنز من الأدمة )) .

يقوا أمرؤ القيس مخاطبا قيصر الروم : ((وإنّي أتيتُك بأشتاتي لتجمعها , ‏مالي أراك وقد شتّت أشتاتي ؟  )) , أغْرَقتني جراحاتك في مدارج الأوهام وأهدتني انقساماتك تراتيلَ باكيةً أتعبت مداي وفكري , أحرقني الشجو بانحسار مائكوانفراط شمالك عن جنوبك , أغْدَقتني بأرتالٍ من الوجع ,  فاسترق قلبي مثار صوت النجوى فيك , فخذلتني الأشياء وازدحمتني انكساراتيواستباحتني ظلالات النأي , تغَمَست روحي بالأحزان , أسقطتني في قعر النهايات وأنين المرافئفركلتني الغربة في ضياعٍ وبنبالٍ سُعر , وتعددت الآلهة في وطنٍ مبتور الأصابع .

عشاق المستقبل يموتون شوقاَ إلى ركن في حضن القصيدة , وعلى ناصية الشوق في بيوت تشبه فكرتهم عن الوطن , الأوطان التي لم يبق منها إلا قلوب عشاقها الثوار , كانوا يعلمون , رغم كل شيء , أن الظلال ليست سوى انعكاسٍ لماضٍ ضاع , وأن الطريق التي يسلكونها الآنليست إلا امتداداً لطريقٍ سلكها قبلهم من كانوا يتوهون في متاهات الأسئلة ,ولا يعودون أبداً , وحدادًا على غيابِ حاضرك سيهدونك الجوري والأشعار اليتيمة , كم أحبك ياوطني أعشقك أيـها القصيد يا علية َ الأوطان ياعراق .