يقول أبراهيم البهرزي : (( قال لي من أحب ُّ, والبينُ قد جَدَّ , وفي مهجتي لهيب ُالحريقِ , مالذي في الطريقِ تصنع ُبعدي , قلت ُ أبكي عليكَ طول الطريق )) , وهكذا عندما يهزم الحزن الأرواح , تقول فاطمة الفلاحي : (( يستقرئ قنديل الوهم , لعنة صوتك تدب على قارعة القلب , كسحب من أنين , مترفة بالوجع , تلتصق بروحي , لِمَ تكتبها كإثم على حائط ظنونك , وريح الشك تعصف بصدرك…؟)) , ويقول محمود درويش : (( للحَنينِ أعراضٌ جانبيّة , من بينها إدمانُ الخَيال , النّظر إلى الوَراءْ , والإفراطُ في تَحويلِ الحَاضر إلى ماضٍ )) .
متلازمة القلب الكسير , أو اعتلال عضلة القلب الناتج عن الإجهاد , يحدث هذا مباشرةً بعد التعرض لموقف مرهق جسديًا أو نفسيًا , وقد تستمر الحالة بضعة أيام أو أسابيع , ومع العلاج الدوائي , تتم عملية التعافي , وتعرف متلازمة القلب المكسور أيضا بـ (( اعتلال عضلة القلب الإجهادي , التضخم القِمِّي)) , وبالنسبة للبعض (( قلبي مكسور )) ليست مجرد تعبير مجازي عن شدة الحزن على فراق حبيب , بل قد يكون توصيفا حقيقيا لما يشعرون به جراء الإجهاد العاطفي أو المرور بمواقف عصيبة , وهي متلازمة علمية تسمى (( متلازمة القلب المكسور)) , أو كما تعرف بالأوساط العلمية بـ (( اعتلال تاكوتسوبو القلبي Taksotsub )) ,تحدث بعد المواقف المسببة للتوتر, والعواطف الكبيرة , مسببة ألما مفاجئا في الصدر, وأعراضا تشبه أعراض الأزمة القلبية , ويُعتقد أن تدفق هرمون الأدرينالين , وغيره من هرمونات الإجهاد , قد يؤثر على جزء فقط من عضلة القلب , مما يعطِّل وظيفة الضخ الطبيعية للقلب مؤقتا , بينما تستمر بقية أجزاء عضلة القلب بعملها الطبيعي أو قد تحدث انقباضات أكثر قوة.
تحمل هذه الأصابة في طياتها حكايات إنسانية عميقة تتردد أصداؤها في الأساطير والأشعار عبر العصور , دعنا نبدأ رحلتنا في استكشاف هذه الظاهرة من خلال عدسة الأدب والفن , مفادها عيشوا حياتكم ولاتكسروا قلوب الآخرين , لا تفعل ما يخالف شغف قلبك تحت أي ظرف , قل كلمة أحبك لمن يستحقها بلا تأجيل , وتقول أسطورة شائعة بين بعض القبائل الأفريقية , وربما هي حقيقة واقعة وليست محض أسطورة , إن رجال القبيلة إذا ما أرادوا الإطاحة بشجرة عملاقة معمرة , ولم يستطيعوا فعل ذلك بوسائلهم المتاحة , فما عليهم سوى الوقوف أمامها ثم الصراخ على نحوٍ مركزّ ومتواصل لبضعة أيام , وبعدها ستنهار الشجرة وتهوي على الأرض .
في الأساطير القديمة , لطالما ارتبطت المشاعر القوية , خاصة الفقد والحزن العميق , بقوى خارقة للطبيعة , تخيل معي (( هاديس )) , إله العالم السفلي في الأساطير الإغريقية , الذي اختطف (( بيرسيفوني )) إلى عالمه المظلم , ألم تشعر (( ديميتر)) , والدة بيرسيفوني وإلهة الحصاد , بقلب مكسور لدرجة أنها أهملت الأرض , فأجدبت وانتشر القحط؟ هذه الصورة المجازية , تعكس كيف يمكن للألم العاطفي الشديد أن يؤثر على الجسد والروح , تمامًا كما تفعل متلازمة القلب المكسور.
أما في الشعر العربي , فكم من قصيدة رثاء فاضت بأنين الفراق ولوعة البعد , خذ على سبيل المثال قول المتنبي في رثاء سيف الدولة : ((أَلاَ لَيْتَ شِعْرِي هَلْ تَضَمُّنُهَا الْغَضْرَا عَلَى جَنْبِهَا أَمْ قَدْ تَضَمَّنَهَا الْقَبْرُ؟)) , هذا الشوق الجارف والفقد المؤلم يكاد يكون ملموسًا في ثنايا البيت , إنه ليس مجرد شعور بالحزن , بل هو ألم عميق يستوطن الجسد , أليس هذا ما نشعر به عندما نسمع عن حالات لأشخاص أصيبوا بضعف مفاجئ في عضلة القلب بعد فقد عزيز؟
دعنا نتأمل أيضًا قصة (( ليلى والمجنون )) , قيس بن الملوح , الذي هام حبًا بليلى حتى جن , يمثل قمة العشق الذي يتحول إلى عذاب , ألم يكن قلبه مكسورًا ألف مرة لفرط الشوق واليأس؟ كلماته المتقدة بالشوق والألم هي صدى لما قد يشعر به المصاب بمتلازمة القلب المكسور من ضيق وألم في الصدر, وكأن قلبه يعتصر: ((أَلاَ يَا حَمَامَ الأَيْكِ مَا لَكَ بَاكِيًا أَفَارَقْتَ إِلفًا أَوْ جَفَاكَ خَلِيلُ؟ )) , هذه الأبيات تترجم لنا لغة القلب المكلوم , تلك اللغة التي تتجاوز الكلمات لتصل إلى أعماق الروح .
إن متلازمة القلب المكسور, على الرغم من أنها حالة طبية حديثة الاكتشاف , إلا أنها تجد جذورًا عميقة في فهمنا الإنساني القديم للعلاقة بين العاطفة والجسد , فالأساطير والأشعار تقدم لنا صورًا حية لكيف يمكن للألم العاطفي الشديد أن يترك ندوبًا حقيقية , حتى على مستوى عضلة القلب , أن هذه الظاهرة ليست مجرد عارض طبي , بل هي تجسيد لتجربة إنسانية عالمية عبرت عنها ثقافات مختلفة بأشكال متنوعة , حيث يمكن الربط بين قوة المشاعر الموصوفة في الأدب وبين التأثير الفعلي للإجهاد العاطفي على القلب .
تقول ميس خالد : (( وحينما أكره صمتي أغني , أنا لا أخشى الريح , ولكني , أخشى إرتجاف الضلوعوانكشاف أمري , نصفي بلل نصفي يباس , والصمت مالح التأويل ,
عالقة في زبد من العشق , أتضور شوقا , اسكب وجهك في زيت القناديل , امنح لليالي السمراء فتنتها , صب فراتك في الأحداق الناعسات , وأهمس للشمس أن تبتسم للبنفسج ,
خذ قسطك من تسابيح الوجد , واعتكف زاهدا في فيء نخلتين وتعال أخبرك ,عن عطش السعي , وتأتأة الارتواء عن زعفران اللجوء , وزنجبيل المنفى , عن التنهيدة الحرى , تعال أخبرك عن أزاهير روح كمروج النعيم , حزينة بلا سماء , تجودها بالندى , بلا همس ودود , يثير عطرها بابتهال الريح , تنحّ عن وقارك قليلا وانثر سرك الشغوف في رحاب مناسكي, لظلك أشكوا ليلا , ينحت على جدار سهادي اقصوصة الفناء , ويحمل نعش الامنيات الى فراشها الموجوع ,لأدعون عليك في غسق الدجى يبليك قلب مثلما أبليتني )).