مقامة الفن للفن ؟

مقامة الفن للفن ؟

يطالبنا محمود درويش بأن (( لا نكتب التاريخ شعراً , فالسلاح هو المؤرخ )) , والمؤرخ كما يقول درويش (( لا يُصاب برعشة الحمّى إذا سمّى ضحاياه )) , كما أنه (( لايصغي إلى سردية الجيتار)) , بمعنى أنه لا يعبأ كثيراً بالجماليات , وبما تمليه على الضمير من وازع أخلاقي جوّاني , يكون من شأنه أن يوقف العنيف والبطش الذي يسم التاريخ الإنساني , إن التاريخ لا يعترف بالذكاء والعبقرية إلا للقوي وحسب , ولطالما نُظر إلى الفنون والأدب بوصفهما هامشاً في متن التاريخ , ولا أقصد بالهامشية هنا من حيث القيمة والمعنى التي تضفيهما على الإنسان , وإنما من حيث قدرتهما على مواجهة السلطة وتغيير مجرى التاريخ , ولكنا نرى انه لطالما كان الفن مرآة تعكس روح العصر وقضاياه , ومساحة للتعبير عن الجمال والحقيقة , وعلى مر التاريخ , تباينت النظرة إلى الغاية من هذا الإبداع , وبرزت مدرستان فكريتان رئيسيتان تتنازعان هذه الرؤية : مدرسة (( الفن للفن )) , ومدرسة  (( الفن للشعب )) , وتمثل هاتان المدرستان قطبين متناقضين في فهم وظيفة الفن ومسؤولية الفنان , وتتركان بصماتهما الواضحة على الأعمال الفنية وتلقيها.

 

ترى مدرسة (( الفن للفن )) ان الفن فعالية انسانية ذاتية لها قوانينها الذاتية التي لا ترتبط باي قانون اجتماعي او اخلاقي , فالفن عند هؤلاء يكفي نفسه بنفسه , ولا هدف له الا ذاته , اذ ليس للفن غاية اووظيفة اجتماعية او اخلاقية , ووظيفته الوحيدة ( ان كانت له وظيفة ) هي اثارة الجمال , وأن القيمة الحقيقية للعمل الفني تكمن في ذاته , في جماليته وشكله ومضمونه الداخلي , بمعزل عن أي غاية نفعية أو اجتماعية أو سياسية , ويعتبر أتباع هذه المدرسة أن الفن يجب أن يكون مستقلاً بذاته , هدفًا في حد ذاته , يسعى إلى تحقيق الكمال الجمالي والتعبير عن رؤية الفنان الداخلية دون قيود أو مؤثرات خارجية , يركزون على التقنية العالية , والابتكار الشكلي , والتجريب الجمالي , وقد يبتعدون عن الموضوعات الواقعية أو القضايا الاجتماعية المباشرة , فبالنسبة لهم , المتعة الجمالية الراقية هي الهدف الأسمى للفن , وتذوقه يتطلب حسًا فنيًا رفيعًا وقدرة على تقدير الجمال المجرد.

تنطلق مدرسة (( الفن للشعب )) من إيمان عميق بأن الفن يجب أن يكون له دور فاعل في المجتمع , وأن يخدم قضايا الناس ويعبر عن آمالهم وآلامهم , وترى هذه المدرسة أن الفنان مسؤول اجتماعيًا , وأن إبداعه يجب أن يسهم في التوعية والتغيير والارتقاء بالمجتمع , ويركز أتباع هذه المدرسة على الموضوعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تمس حياة عامة الناس , ويسعون إلى تقديم أعمال فنية يسهل فهمها والتفاعل معها من قبل أوسع شريحة من الجمهور , ويعتبرون أن الفن يجب أن يكون أداة للتعبير عن الهوية الجماعية , ونقد الظلم , والدعوة إلى العدالة والمساواة.

يمكن للفن أن يساعد في بناء الوعي ورفع المستوى التعليمي في المجتمع , وذلك من خلال المعارض الفنية والحفلات الموسيقية والعروض السينمائية , بحيث يمكن للأشخاص أن يتعرفوا على ثقافات أخرى وتجارب حياة مختلفة , مما يزيد من الفهم ويقلل من التحامل والتشدد , بالإضافة إلى ذلك , يمكن أن يكون الفن وسيلة لتعزيز الإلهام والأمل , وهناك بالطبع فن راقٍ وفن مبتذل , المعيارية قيمة مهمة في حياة المجتمعات لكي تحاسب نفسها وتنتقد وتُحسِّن وتطمح , ولكن هل هما خصمان متحاربان يجب على أحدهما أن يقضي على الآخر؟ أم أنهما ثمرتان لشجرة واحدة؟ ولا بد من فهم الفارق بين الفن بوصفه قيمة مطلقة , وبين صناعة الفن أو زراعته , وإن أفضل طريق للحصول على فن القمة , هو إتاحة الظروف لتوسع القاعدة , وحريتها في إنتاج ما تشاء , السماد العضوي لا يؤكل , نعم , ولكنه عامل أساسي في طرح ثمار جيدة , لو حاولت أن تروي الفن بمياه معدنية فستفلس وتقضي على القطاع كله , لا يرتقي الفن بديمومة إلا بالانتخاب الطبيعي , برواج تجارة الفنون بشكل عام , وبلغة الاقتصاد : بالمشاريع المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر , وكلما اتسع هامش الربح , واتسعت قاعدة المنافسة , سعى فنانون إلى تمييز أنفسهم , ويكون لديهم رأسمال يمكِّنهم من التجريب من دون خوف من الخسارة , أما التضييق الأخلاقي أو الطبقي على فن الشارع , فيؤدي إلى انحسار تجارته وتقلص الأرباح منه , وهذا يضر الفن الراقي قبل غيره , لأنه لن يستطيع وحده تحمل أعباء صناعته.

يقول أمبرتو إيكو: (( ما لا يمكن تنظيره , ينبغي سرده  )) , ففي الحالات التي تجد فيها جماعة ما نفسها تحت تهديد خطر وجودي يتربص بها ويستهدف هويتها وتاريخها ويضع قيمها ومُثُلها موضع تساؤل , تبرز كافة أشكال الفنون والسرد الأدبي بوصفهما الأدوات اللازمة والضرورية لتجذير الهوية وترسيخها في وعي ووجدان الناس باعتبارها هويات مقاومة وتحدي لهذا الخطر, وللسرد الأدبي والفنون قدرة هائلة في توسيع خيال الشعوب وإلهابها بقيم التضحية والفداء , كما أن لها قدرة عظيمة في إعادة تصور الجماعة لنفسها وتاريخها بوصفها أمة خالدة لها تاريخ حيوي وحضارة مجيدة , خلقت رموزاً كانوا منارات في التاريخ الإنساني.

ينظر الفكر ألأشتراكي الى الفن كجزء من البنية الفوقية (التي تشمل القانون والسياسة والدين والفن والفلسفة) نابعة من البنية التحتية الاقتصادية للمجتمع , وبالتالي , يمكن فهم أشكال الفن وأنماطه السائدة في فترة تاريخية معينة على أنها تعكس العلاقات الاقتصادية والاجتماعية السائدة في تلك الفترة , ويمكن تطبيق مفهوم الاغتراب الذي طرحته ألأفكار اليسارية على إنتاج واستهلاك الفن في ظل الرأسمالية , فقد يُنظر إلى الفنان على أنه مغترب عن عمله إذا كان يخضع لضغوط السوق ومتطلباته , وقد يتحول العمل الفني إلى سلعة تخضع لقوانين العرض والطلب , مما يؤدي إلى (( تشييئه )) وفقدان قيمته الجوهرية , كأداة أيديولوجية , أذ يمكن أن يُستخدم الفن لتعزيز الأيديولوجيات السائدة في المجتمع أو لتحديها , ويمكن للطبقة الحاكمة أن تستخدم الفن لترسيخ سلطتها وقيمها , بينما يمكن للفنانين ذوي الوعي الطبقي استخدام فنهم لكشف التناقضات الاجتماعية والدعوة إلى التغيير.

ركز الفكر الرأسمالي على الاقتصاد وسوق الأيدي الحرة , لكن بعض أفكاره يمكن أن تُسْتَخْلَص منها رؤى حول الفن من منظور اقتصادي واجتماعي , ويمكن ربط مفهوم آدم سميث عن تقسيم العمل وتخصصه بظهور حرف ومهارات فنية متخصصة , قد يؤدي التخصص إلى زيادة الكفاءة والإنتاج في الصناعات الفنية , وعلى الرغم من أن سميث ركز على القيمة التبادلية للسلع , يمكن التمييز بين القيمة النفعية للسلع والقيمة الجمالية للأعمال الفنية , قد لا تخضع القيمة الجمالية لقوانين السوق بنفس الطريقة التي تخضع لها القيمة النفعية , ويمكن ربط أفكار سميث حول التفاوت الاجتماعي وتأثير الثروة على السلوك بالذوق الفني , قد تتبنى الطبقات الاجتماعية المختلفة أذواقًا فنية مختلفة , وقد يلعب التقليد والمحاكاة دورًا في تشكيل هذه الأذواق , ومن منطلق دفاعه عن عدم تدخل الحكومة في الاقتصاد , يمكن أن يُستنتج أن سميث قد يفضل ترك الفنون تزدهر بحرية دون تدخل كبير من الدولة , باستثناء ربما بعض أشكال الدعم الأساسية.

يقول أحمد شوقي : (( قيل ما الفن قلت كل جميلملأ النفس حسنه كان فنا ,  وإذا الفن لم يكن لك طبعا كنت في تركه إلى الرشد أدنى )) , ويقول أميديو موديلياني : (( إن ما ابحث عنه في فني ليس ما هو حقيقي أو غير حقيقي , بل اللاوعي , هو غموض الجنس البشري )) , أما سيزار كروز فقد كتب : ((على الفنان أن يُهدئ المٌثار.. وٌيثير الهادئ )) , ويقول ناعوم تشومسكي : (( من استراتيجيات التحكّم بالشعوب , تشجيع الشعب على استحسان الرداءة والفن الهابط )) , وتقول غادة السمان : ((الفن وحده يٌنقذنا من الجنون )) , وأخيرا قال فريدريك نيتشه : (( لقد اخترعنا الفن لكي لا نموت من الحقيقة )) .