( هي دولة ُ الفرهود ِ حارسُها لصٌّ.. وقاضي عَـدْلِـهـا مُغْمى
وطـنٌ يُـكـبَّـلُ فـيـه ِ مُـنـتـفِـضٌ عـفُّ الـيـديـنِ ولُـصُّـهُ يُـحْـمى
مـاكان ذا ريـش ٍفـكـيـف غـدا حُوتا ً تفـيضُ لحومُـهُ شَـحْـمـا؟
حافي الـقُـدورِ يَـداهُ ماعـرفتْ غرْسـاً ولا سَـعَـتِ الخطى يوما
أأبـوهُ ” قــارونٌ ” فــأوْرَثــه ُ يـاقـوتَـهُ والــتِـبْـرَ والـنُّـعـمـى؟ )) .
(( حلو الفرهود كون يصير يوميه )) , تلك كانتأهزوجة الشارع العراقي في يومي 1- 2 من حزيران 1941 , أندرجت في الوعي والوجدان العراقي , بحيث رأينا الشاعر الشعبي يناغى حبيبته قائلا : (( أذا فد يوم صاحو بيك فرهود عليك الله الشفايف ضمهه اليه )).
الفرهود (Farhud) : مصطلح عربي يعني (( الفوضى )) أو (( الاضطراب العنيف )) , يشير في سياقه التاريخي الأكثر شهرة إلى أعمال العنف والنهب التي استهدفت اليهود في بغداد يومي 1 و2 يونيو 1941 , خلال احتفالهم بعيد الشفوعوت اليهودي , ولقد وقعت هذه المذابح بعد الفوضى التي أعقبت سقوط حكومة رشيد عالي الكيلاني خلال انقلاب 1941م , قبل أن تتمكن القوات البريطانية من السيطرة على المدينة , انتهت الحادثة في اليوم التالي ودخلت القوات البريطانية بغداد , حيث راح ضحيتها حوالي 175 قتيلا و2,000 جريح يهودي , ودُمِّرَ خلال المذابح حوالي 900 منزل تابع لليهود, أرهبت هذه المذابح يهود العراق , وتركت في نفوسهم أثرًا عميقًا , وساعدت على سرعة هجرتهم إلى إسرائيل , يسمى حادث الفرهود أحيانا لدى اليهود بالهولوكوست المنسي , حيث يعتبر بداية النهاية للوجود اليهودي في العراق الذي دام لأكثر من 2600 سنة منذ سبي بابل , وقد ظهر هذا المصطلح في منتصف اربعينيات القرن الماضي في العراق , ولا علاقة له بالمعاني المعجمية في اللغة العربية , بل هو مصطلح تم تكييفه من مفردتين هما , (( فرَّ و اليهود )) , ليصبح بالتداول فرهود إشارة لعمليات السلب والنهب التي تعرضت لها بيوت ودكاكين المواطنين اليهود الذين انتابهم الرعب فهربوا من بيت الى بيت بهلع تاركين بيوتهم واماكن عملهم , حيث وقعت مجازر شنيعة بحقهم , كان الفرهود نقطة تحول مفصلية في تاريخ يهود العراق , وساهم بشكل كبير في تسريع هجرتهم الجماعية في السنوات اللاحقة.
في معظم عمليات السلب والنهب كان الرعاع هم الذين يقومون بالعملية حينما تفقد الدولة قوتها او تنهار , وما يجري اليوم ومنذ 2003 هو شكل آخر للفرهدة حيث انقلبت المعادلة وتمت عملية تبادل للمواقع , وعلى الرغم من أن الفرهود ارتبط تاريخيًا باليهود , فإن جوهر هذه الثقافة – أي استغلال الفراغ الأمني لشن هجمات عنيفة وعمليات نهب ضد مجموعات معينة – عاود الظهور بشكل مأساوي بعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 , مع انهيار سلطة النظام الوطني وحلول حالة من الفوضى الأمنية , شهد العراق موجة جديدة من أعمال العنف والنهب التي استهدفت هذه المرة قطاعات واسعة من المجتمع العراقي , وقد شملت هذه الأحداث نهب المؤسسات الحكومية والتراثية , حيث تعرضت المتاحف والمكتبات والمستشفيات والوزارات للنهب المنظم , مما أدى إلى فقدان كنوز أثرية ومعلومات حكومية حيوية , وتدهور البنية التحتية.
بدأت عمليات الفرهدة بعنوان الحواسم في اواسط 2003 والتي طالت كل دوائر الدولة ومخازنها ومقراتها في معظم المحافظات والبلدات العراقية , و كانت باوامر وتعليمات ضباط الجيش المحتل الذين لم يسقطوا ثقافة الفرهود , حيث عادت هذه المرة مشرعنة بأنظمة وقوانين , وتحت شعار حصانة البرلماني والوزير وملحقاتهم منذ 2003 وحتى يومنا هذا , حيث عشرات المليارات تذهب إلى جيوب هذه الشرائح من الموظفين ذوي الدرجات الخاصة في سابقة لم تحصل في معظم انظمة العالم التي تشابه الوضع العراقي , ناهيك عن الفرهدة في المال العام تحت غطاء المشاريع الوهمية والمكاتب الاقتصادية للاحزاب الحاكمة وللميليشيات التي تسيطر على معظم معابر الحدود العراقية وموانئه , وتم استهداف الأقليات , ولم يسلم المسيحيون والصابئة المندائيون والأقليات الأخرى من هذه الفوضى , حيث تعرضوا للاختطاف والقتل والتهجير القسري , على يد جماعات مسلحة استغلت ضعف القانون , وتفاقم العنف الطائفي في السنوات التي تلت الغزو , حيث استهدفت الميليشيات المدعومة من جهات مختلفة أحياء ومساجد وكنائس تابعة للطوائف الأخرى , مما أدى إلى موجات نزوح داخلي واسعة النطاق ,وازدهرت الجريمة المنظمة , بما في ذلك السرقة والابتزاز والاتجار بالبشر, في ظل غياب سلطة الدولة القوية , مما فاقم من معاناة المواطنين.
يكمن التشابه بين فرهود 1941 والأحداث التي تلت 2003 في استغلال حالة عدم الاستقرار وغياب سلطة القانون لتنفيذ أعمال عنف ممنهجة ضد مجموعات معينة , سواء لأسباب عرقية , دينية , طائفية , أو لتحقيق مكاسب مادية , وبينما استهدف فرهود 1941 اليهود بشكل خاص , فإن (( الفرهود الجديد )) بعد 2003 اتخذ أشكالًا متعددة واستهدف شرائح أوسع من المجتمع , لكن جوهر ثقافة العنف والنهب في غياب الدولة بقي واحدًا , فبعد عام 2003 قامت مجاميع مسلحة بالتنسيق مع موظفين في دوائر التسجيل العقاري بالاستيلاء على عقارات وممتلكات ومنازل واراضي المواطنين , ولم تقتصرعمليات السلب والنهب والنصب والاحتيال , على المجاميع المسلحة , بل ان مسؤولين في الدولة ومتنفذين في الساحة السياسية ومليشيات سائبة اظهرت خبرة ودراية كبيرة في عمليات الفساد المشرعن بالتجاوز والاستيلاء على عقارات العراقيين ,ومنهم المهاجرين والمغتربين , وعلى ممتلكات رموز النظام السابق واركانه , شملت العمارات والمرافق الحكومية والبنايات التابعة للدولة ,من خلال استغلال بعض القرارات الحكومية لجهة تسجيل ملكيتها , او استخدام وثائق مزورة في عمليات البيع والشراء وتغيير الملكية.
كان فرهود اليهود لطخة عار في الجبين , عاودت عام 2003 حين فرهدوا الوطن , ليكر
العار مرة أخرى في التاريخ العراقي , بدون اي اعتذار عن واحدة منها , ففي عراق ألكاوبوي ألأميركي يتم التخلص من العار عبر مراكمته, وستبقى عبارة ((دولة الفرهود)) اصطلاحا ملازما لهذه الفترة من الحكم والزمن في العراق , وسيتداوله الناس كإشارة الى الإحتلال وما بعده وفي كل التفاصيل المملة , ناهيك عن تهمة السرقة التي ستبقى كالكابوس تلاحق من تعاون مع رموز الزمن البريميري .