مقامة الفرج بعد الشدة

مقامة الفرج بعد الشدة

إلى كل عراقي صامد , يا من تلوكتك الأيام وضاقت بك السبل , لا يأس في انتظار الفرج , فكما أن الليل مهما طال لا بد أن يعقبه فجر صادق , فإن ظلم الغزاة وذيولهم إلى انقضاء قريب , والنصر قادم بإذن الله .

الفرج بعد الشدة هو كتاب ألفه القاضي التنوخي وأورد فيه الكثير من الأخبار والقصص وبناه على 14 باباً  , وكتاب التنوخي ليس الكتاب الوحيد الذي يحمل هذا الاسم كما أشار مؤلفه في المقدمة حيث ذكر أن أول من سمى كتاباً بهذا العنوان هو أبو الحسن المدائني ,  ثم ابن أبي الدنيا ,  ثم القاضي أبو حسين , وقال : (( ووجدتُ أبا بكر ابن أبي الدنيا , والقاضي أبا الحسين , لم يذكرا أن للمدائني كتاباً في هذا المعنى , فإن لم يكونا عرفا هذا , فهو طريف , وإن كانا تعمدا ترك ذكره تنفيقاً لكتابيهما وتغطية على كتاب الرجل , فهو أطرف )) , وفي الحديث عن الترمذي أفضل العبادة انتظار الفرجوكما قال سبحانه: ( أليس الصبح بقريب , إذا تضايق أمر فانتظر فرجاً  فأقرب الأمر أدناه إلى الفرج .

يقول هُدبةُ بنُ خِشرمِ العُذريّ , وهوَ شَاعرٌ إسْلَامِي فَصِيحٌ : (( عَسَى الكَربُ الذِي أَمْسَيْتَ فيهِ يكونُ ورَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ )) , وَهُدبةُ شَاعِرٌ مفلَّقٌ , وكَانَ كَثيرَ الأمْثَالِ فِي شعرِه , وأكثرُ شِعرِه فِي السّجنِ والمَوتِ , لأنَّه سُجِنَ , وقُتلَ شابّاً سَنةَ 54 هـ , وهوَ أوّلُ من أُقِيدَ فِي الإسلامِ , فَحُبِسَ في عَهدِ مُعاويةَ خَمسَ سِنينَ , لقتلِه ابنَ عَمِّه زيادةَ بنِ زيدٍ العُذريّ , وَكَانَا مُقَربَيْن لِبَعضِهمَا بَعْضاً , وصَدَفَ أنَّهمَا كَانَا عَائديْنِ مِنَ الشَّامِ معَ قَافلةٍ فِيهَا أُختُ هُدبةَ , وكَانَ أنْ قَالَ هُدبةُ شِعراً شَبَّبَ فيهِ بأختِ زِيادةَ وبَالغَ , فَلَمَّا وَصَلَا المَدِينَةَ جَمَعَ زِيادةُ رفاقَهُ وَضَرَبَا هُدبَةَ ضَرْباً مُبَرّحاً , فَأَصَرَّ علَى الانْتِقَامِ , فَقتَلَ زِيادةَ , وَسُجنَ بِهِ , ثُمَّ لمَّا بَلغَ المِسْوَرُ بنُ زِيادةَ وَكَانَ صغيراً يومَ قَتْلِ أبِيهِ قَتَلَ هُدبَةَ بِأبِيهِ , وَبَيتُ القَصِيدِ مِنْ أبْيَاتٍ كَانَ هُدبةُ يَقولُهَا فِي حَبسِهِ , يُسلّي بِهَا نفسَه , ويَتصبَّرُ بِهَا علَى حَالِهِ , وَيتَمنَّى , فَليسَ للأمَانِيّ مَا يَمنَعُ إعلانَها , وإنْ تَعسَّرَ تَحَقُّقُهَا , يَقولُ : لَعلَّ (الكَربَ) : أشدُّ منَ الهَمّ وَالغَمّ , وهوَ حزنُ النَّفسِ , الذِي (أمسيتَ) : أيْ صَارَ الوقتُ عَليكَ مَسَاءً , وبتَّ فيهِ , يكونُ (وراءَه) : أيْ خلفَه وأمامَه , ويعقبُهُ (فَرَجٌ) : وهوَ كَشفُ الغمّ , يزيلُه عاجلاً , والشَّاعرُ يخاطبُ في الأبيَاتِ ابنَ عمٍ لهُ , كانَ مسجوناً مَعه ,  وَلِهُدبةَ قصةٌ معَ زوجتِهِ وهوَ يُقادُ للقِصَاصِ , إذْ كَانتْ تَتبعُهُ بِلَهفةٍ , فأنشدَهَا : (( فلَا تَنكَحِي إِنْ فَرَّقَ الدَّهْرُ بَيْنَنَا أَغَمَّ القَفَا والوَجْهِ لَيْسَ بِأَنْزَعَا )) , فَنهَاهَا في البَيتِ عنْ أنْ تتزوَّجَ منْ بعدِه من يَتَّصفُ بتلكَ الصّفَاتِ , فأوقفَتْ زوجتُه منْ يَقتادُ هُدبةَ , وعَمدَتْ إلى جَزَّارٍ فاستلَّتْ مِنهُ سِكينًا وَبَترتْ أنفَهَا , ثمَّ أقبلتْ علَى زوجِهَا , وَقالتْ لهُ : أهَذَا وَجهُ مَنْ تَرجُو بعدَكَ الزَّواجَ؟ , فَقالَ: الآنَ طَابَ وُرودُ المَوتِ .

في (الفرج بعد الشدة) , لابن أبي الدنيا قوله : حَاصَرَ هَارُونُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ حِصْنًا , فَإِذَا سَهْمٌ قَدْ جَاءَ لَيْسَ لَهُ نَصْلٌ حَتَّى وَقَعَ بَيْنَ يَدَيْهِ , مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ: (( إِذَا شَابَ الْغُرَابُ أَتَيْتُ أَهْلِي وَصَارَ الْقَارُ كَاللَّبَنِ الْحَلِيبِ )) ,فَقَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ هَارُونُ الرَّشِيدُ : اكْتُبُوا عَلَيْهِ وَرُدُّوهُ : (( عَسَى الْكَرْبُ الَّذِي أَمْسَيْتَ فِيهِ يَكُونُ وَرَاءَهُ فَرَجٌ قَرِيبُ )) , قَالَ : فَافْتُتِحَ الْحِصْنُ بَعْدَ ذَلِكَ بِيَوْمَيْنِ , أَوْ ثَلَاثَةٍ , فَكَانَ الرَّجُلُ صَاحِبُ السَّهْمِ مِمَّنْ تَخَلَّصَ , وَكَانَ مَأْسُوراً مَحْبُوساً فِيهِ سَنَتَيْنِ , والقصص التي تُروى في الفرج بعدَ الشّدة  كثيرةٌ في كتبِ التراث.

عن أبي قلابة المحدث , قال: ضقت ضيقة شديدة , فأصبحت ذات يوم , والمطر يجيء كأفواه القرب , والصبيان يتضوَّرون جوعاً , وما معي حبة واحدة فما فوقها , فبقيت متحيَّراً في أمري , فخرجت , وجلست في دهليزي , وفتحت بابي , وجعلت أفكر في أمري , ونفسي تكاد تخرج غماً لما ألاقيه , وليس يسلك الطريق أحد من شدة المطر, فإذا بامرأة نبيلة , على حمار فاره , وخادم أسود آخذ بلجام الحمار, يخوض في الوحل , فلما صار بإزاء داري , سلم , وقال : أين منزل أبي قلابة ؟ فقلت له: هذا منزله , وأنا هو , فسألتني عن مسألة , فأفتيتها فيها , فصادف ذلك ما أحبّت , فأخرجت من خفّها خريطة, فدفعت إليّ منها ثلاثين ديناراً , ثم قالت : يا أبا قلابة , سبحان خالقك , فقد تنوق في قبح وجهك , وانصرفت.

أضجع أحد الجزارين كبشا ليذبحه بالقيروان , فتخبط بين يديه وأفلت منه وذهب , فقام الجزار يطلبه وجعل يمشي إلى أن دخل إلى خربة , فإذا فيها رجل مذبوح يتشحط في دمه ففزع وخرج هاربا , وإذا صاحب الشرطة والرجالة عندهم خبر القتيل , وجعلوا يطلبون خبر القاتل والمقتول , فأصابوا الجزار وبيده السكين وهو ملوَّث بالدم والرجل مقتول في الخربة , فقبضوه وحملوه إلى السلطان فقال له السلطان: أنت قتلت الرجل؟ قال: نعم , فما زالوا يستنطقونه وهو يعترف اعترافا لا إشكال فيه , فأمر به السلطان ليُقتل فأُخرج للقتل , واجتمعت الأمم ليبصروا قتله , فلما هموا بقتله اندفع رجل من حلقة المجتمعين وقال: يا قوم لا تقتلوه فأنا قاتل القتيل , فقُبض وحُمل إلى السلطان فاعترف وقال: أنا قتلته , فقال السلطان قد كنت معافى من هذا فما حملك على الاعتراف؟ فقال: رأيت هذا الرجل يُقتل ظلما فكرهت أن ألقى الله بدم رجلين , فأمر به السلطان فقُتل ثم قال للرجل الأول: يا أيها الرجل ما دعاك إلى الاعتراف بالقتل وأنت بريء؟ فقال الرجل : فما حيلتي رجل مقتول في الخربة وأخذوني وأنا خارج من الخربة وبيدي سكين ملطخة بالدم , فإن أنكرت فمن يقبلني وإن اعتذرت فمن يعذرني؟ فخلَّى سبيله وانصرف مكرَّما.

قال بعض العلماء: رأيت امرأة بالبادية , وقد جاء البَرَدُ فذهب بزرعها , فجاء الناس يعزّونها فرفعت رأسها إلى السماء , وقالتاللهم أنت المأمول لأَحسنِ الخلف وبيدك التعويض مما تلف , فافعل بنا ما أنت أهله , فإنّ أرزاقنا عليك وآمالنا مصروفة إليك , قال: فلم أبرح حتى مرّ رجل من الأَجِلاء , فحدّث بما كان , فوهب لها خمسمائة دينار , فأجاب الله دعوتها وفرَّج في الحين كربتها.

لما أُدخل إبراهيم التميمي سجنَ الحجاج رأى قوما مقرّنين في سلاسل , إذا قاموا قاموا معا , وإذا قعدوا قعدوا معا , فقال : يا أهل بلاء الله في نعمته , ويا أهل نعمة الله في بلائه , إن الله عز وجل قد رآكم أهلا ليبتليكم , فأروه أهلا للصبر, فقالوا : من أنت رحمك الله؟ قال: أنا ممن يتوقع من البلاء مثلما أنتم عليه , فقال أهل السجن: ما نحب أنَّا خرجنا , وقال الفضيل بن عياض رحمه الله وهو يحدث عن (إبراهيم التميمي) إن إبراهيم قال : إن حبسني (يعني الحجاج) فهو أهون علي , ولكن أخاف أن يبتليني فلا أدري على ما أكون عليه ؟ (يعني من الفتنة) , فحبسني , فدخلت على اثنين في قيد واحد , في مكان ضيق لا يجد الرجل إلا موضع مجلسه , فيه يأكلون , وفيه يتغوطون , وفيه يصلّون , قال : فجيء برجل من أهل البحرين , فأدخل علينا , فلم يجد مكانا , فجعلوا يتبرمون منه , فقال : اصبروا , فإنما هي الليلة , فلما كان الليل قام يصلي , فقال يا رب مننت علي بدينك , وعلمتني كتابك , ثم سلطت علي شر خلقك , يا رب الليلة الليلة , لا أصبح فيه , فما أصبحنا حتى ضَرب بوّابُ السجن : أين البحراني ؟ فقلنا : ما دعا به الساعة إلا ليقتل , فخُلَّيَ سبيلُه , فجاء فقام على الباب , فسلم علينا , وقال: أطيعوا الله لا يعصكم .

يا أيّها الإنسان إن مع العسر يسرا , بعد الجوع شبع , وبعد الظمإ ريّ , وبعد السهر نوم , وبعد المرض عافية , سوف يصل الغائب , ويهتدي الضالّ , ويفكّ العاني , وينقشع الظلام  ,فعسى الله أن يأتي بالفتح أو بأمر من عنده , بشّر الليل بصبح صادق سوف يطارده على رؤوس الجبال ومسارب الأودية , بشّر المهموم بفرج مفاجئ يصل في سرعة الضوء ولمح البصر, بشّر المنكوب بلطف خفيّ وكفّ حانية وادعة , وإذا رأيت الصحراء تمتد وتمتد , فاعلم أن وراءها رياضاً خضراء وارفة الظلال , وإذا رأيت الحبل يشتد ويشتد , فاعلم أنه سوف ينقطع , مع الدمعة بسمة , ومع الخوف أمن , ومع الفزع سكينة , فلا تضق ذرعاً , فمن المحال دوام الحال , وأفضل العبادة انتظار الفرج , والأيام دول , والدهر قُلّب , والليالي حبالى , والغيب مستور , والحكيم كل يوم هو في شأن , ولعل الله يحدث بعد ذلك أمرا , وإن مع العسر يسراً , إن مع العسر يسراً.

أحدث المقالات

أحدث المقالات