يقول محمود درويش)) : يمشي على الغيم في أحلامه , ويرى ما لا يرى , ويظن الغيم يابسة , عالٍ هو الجبل )) , وقبل أن يكتب درويش هذه الكلمات , كان امرؤ القيس قد وصف الغيوم في شعره بأبلغ صورة : (( ديمة هطلاءُ فيها وطفٌ طبقُ الأرضِ تحرى وتدرْ )) , حتى أبو تمام لم يختلف عنهما حين قال في وصف الديمة : (( ديمةٌ سمحة القياد سكوب مستغيث بها الثرى المكروب )) , إننا في خضم حياتنا المليئة بالركض والصخب , ننسى أحيانًا أن نرفع رؤوسنا للسماء , لكن حين تتعب أرواحنا وتكلّ , نلتفت للأعلى دون وعي , فنراها , كائنات سماوية ترقص على نغمات لا نسمعها , حينها فقط , ندرك أن الحياة تشبه الغيوم أكثر مما نظن.
الغيوم مرآة الحياة , تأمل أشكال الغيوم المتغيرة باستمرار , كيف تتحول من قطن أبيض رقيق إلى تكتلات رمادية ضخمة , ثم تتلاشى لتفسح المجال لغيرها , هذه الديناميكية المستمرة تعلمنا مرونة الحياة وتقبل التغيير, فكما أن الغيوم لا تدوم على حال , فإن الأحزان والأفراح عابرة , في لحظات الضعف واليأس , قد نرى في الغيوم الداكنة انعكاسًا لحالتنا النفسية , لكن حتى في هذه اللحظات , يمكننا أن نتذكر أن هذه الغيوم ليست دائمة , وأن الشمس ستشرق حتمًا من جديد , إنها تذكير بأن الأمل موجود دائمًا , حتى وإن حجبه عنا سحب الظروف مؤقتًا , لذا , حين تشعر بأن الحياة باتت ضيقة , لا تطرق أبواب البشر, اطرق باب السماء , ارفع عينيك وتحدث مع الغيوم , قد لا ترد , لكنك ستشعر بأنها تفهمك , وهذا يكفي , إننا بحاجة لأن نتأمل السماء أكثر, أن نتعلم من غيومها فن التغيير , فن التخلي دون أن نفقد ملامحنا , أن نكون مثل الغيوم : نمرّ ونترك أثرًا , ولو كان ظلًا ناعمًا على وجه النهار.
الغيوم في الشعر العربي : لم يكن هذا التأمل وليد اليوم , فقد عني العرب قديمًا وحديثًا بالغيوم وأنواعها وهطولها , ولأنهم كذلك , أطلقوا عليها مسميات مثل الديمة (الغيمة السكوب) , والسواري (الغيوم التي تسري وتبكر بتهطالها عند الفجر) , والنشاص (السحاب المرتفع) , ولأن حياة العرب كانت مرتبطة بالغيوم حيث يتوقف عليها خصب نباتهم وازدهار مراعيهم , وجدنا تعلق الشعراء بها ووصفها في شعرهم , يقول أبو تمام في الديمة : (( ديمةٌ سمحة القياد سكوب مستغيث بها الثرى المكروب )) , ويصف الشاعر بشر السحاب النشاص فيقول : (( فلما رأونا بالنسار كأننا نشاصُ الثريا هجتهُ جنوبها )) .
رسائل الغيوم : لا تأتي الغيوم من فراغ ولا تمضي دون أثر, هي رسائل السماء وبريدها الأبيض الرمادي , وموسيقاها التي لا تُسمع بل تُحَس , هي انعكاسات لقلوبنا , حين نعيش بحذر, حين نحب بصمت , حين نحزن بلا دمع , ففي الصباح , تسير الغيوم بخفة فوق رؤوسنا , بيضاء كأنها أحلام لم يمسسها اليأس بعد , وفي زوايا الغروب , تتبدل اللوحة بألوان حارة , بين الأحمر والبرتقالي والرمادي , غيمة تميل للخجل , وأخرى تتهامس مع قرص الشمس الراحل , وثالثة كأنها تبكي بلون غامق حزين , وكأن كل غيمة تحمل قصة لم تروَ, أو حزنًا لم يفصح عنه.
في الختام , يمكننا القول إن الغيوم ليست مجرد ظاهرة جوية , بل هي مرآة تعكس حالاتنا النفسية ونافذة نطل منها على آفاق الأمل , سواء كانت بيضاء نقية أو رمادية داكنة , فإنها تحمل في طياتها دروسًا قيمة عن الحياة والتغيير والثبات , فلنتعلم كيف ننظر إلى السماء بعين المتفائل , وكيف نستلهم من لوحات الغيوم المتغيرة قوة الاستمرار والإيمان بغد أفضل.