نشر صاحبنا على صفحته ما أسماها برسالة تبليغ جريئة تقول : (( انا كنت غصنا يا سرور , وكنت انت الريح فكسرتني , وصدق جلال الدين الرومي حين قال : حتى ولو اعتذرت الرياح فالغصن مازال مكسورا )) , فماذا كان يتوقع ؟ يبدو انه لم يسمع مولانا شمس الدين التبريزي يقول : (( عندما تلج دائرة الحب , تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن , فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات , لا يمكن إدراكه إلا بالصمت)) .
لايزال غصنك المكسور يؤذيك ؟ لا بأس , فمولانا الدرويش يخبرك (( ان الجرح هو المكان الذي يدخل منه الضوء إلى أعماقك , أما تُراك استمعت إلى حكايا الناي وأنين اغترابه ؟ منذ اُقتطعت من الغابلم ينطفئ بيّ هذا النواح)) , أما الجذور التي تعن عليك فهي شهقة العاشق في ثقوب الناي , يفزز حلمه البكاء , وفي آخر مرحلة للصبر ينتحر القصب , ويقولون أن البرد يشبه الغياب , لذلك لا تتعجب إن رأيت أحدهم يرتجف قرب النار فبرد الروح أقسى .
كنت أتسلل من حين لآخر نحو حانات النبيذ , خاصة عند الظلام الحالك من الليل ,
بإحدى الليالى أمسك بي الساقي فأعطاني جرة من ذاك النبيذ , رأيت الروح والفؤاد كلما تذوقت أزدادا ثملا وظمأ , وقررت التلصص مرة أخرى , فأمسك بى ذاك الساقي قائلا : لقد فتنت بنا , قلت : ظمأت مثلكم , كلما نظرت للعشاق و المحبين إزداد قلبي ظمئا و ثمل , قال : عليك بالإمتنان , وتحرر روحك من نفسك , لذا تراني أطرب لثمله.
ذات سهرة سمعت الدرويش يغني : (( ما مر ذكرك إلا وابتسمت له , كأنك العيد والباقون أيامُ , أو حام طيفك إلا طرت أتبعه , أنت الحقيقة والجلاس أوهامُ )) , وحين بدأ البكاء والنشيج , صاح الدرويش الآخر : (( تعلق الفاني بالفاني يفنيه , تعلق الفاني بالباقي يبقيه )) , ينصحونك ان تتعافى بغصنك المكسور كلما أصابتك الحياة , فإن كنت معه , تسهر الليل كله , وإن غاب عنك لا تستطيع النوم , وما أشد الفرق بين الاثنين , رغم أن كليهما أرق .
هذي الخمرُة الشاحبة السُمرَة تَتوثّبُ في الإبريق الماثلِ شُعَلاً مُستَعِرة , وعلى نهرِ الضوءِ الناعس , تَسبَحُ دائرة أطيافُ شيخي , يَهمسُ أَحَلى ما استَحقبَ مِنْ حِيَلِ الأسلاف , شيخي تَغمُرُه اللحظة كلُّ الأطيافْ , يَتلوى و ينجرِف على صَدِرِ المَوْجَاتْ , شَيِخىِ يغرِزُ أحزان البارحة المُرّة , يصيح : الفكر يَسبَحُ في ملكوت المعاني وليس أمام المريد إلا التَدبّر, وليس أمام العارف إلا التأمل , قلبي ارتوى ورُوحي مسّها شغفُ الانبعاث , ويُصفّقُ للسّاقي أَنْ زِدنا لا تُبقيِ قَطْرة للصَّحوِ التافهِ فينا , لا تُبقي قَطرة.
دعني أنبئك عن فن المناجاة فحين كتبت له : (( بمجرد أن أضع قلمي على السطر لأكتبك , تنبت ألف بذرة , وتخضّر الورقة , وتُمطر سمائها حروفاً , ويحيطني عطر غاباتك , ماكتبت لك الاّ حلّت ذكراك ضيفاً , وأنتزعت قلبي, ووضعت مكانه بين الجوانح باقة ياسمين )) , فيرد على صداها صائحا : (( مولاي هل يبصر آلام الروح سواكْ ؟ هل تترك أزهارَ الأرضِ تضيعُ سدى ؟ فأمنحنا حُبًا فوق الحبّ ,ورفقًا فوقَ الرفقِ , وصبرًا وهدى , وامسح ارواحَ عبادِك أهل الصفّة بالنورْ , واحشر عُبّادَ السحرةِ في ضيقِ الذلّ وشتتهم بدَدَا
مولاي هب للعاشقِ رشدا )) .
يقول ابن معصوم :