مقامة الغصن المكسور

مقامة الغصن المكسور

نشر صاحبنا على صفحته ما أسماها برسالة تبليغ جريئة تقول : (( انا كنت غصنا يا سرور , وكنت انت الريح فكسرتني , وصدق جلال الدين الرومي حين قال : حتى ولو اعتذرت الرياح فالغصن مازال مكسورا )) , فماذا كان يتوقع ؟ يبدو انه لم يسمع  مولانا شمس الدين التبريزي يقول : (( عندما تلج دائرة الحب , تكون اللغة التي نعرفها قد عفى عليها الزمن , فالشيء الذي لا يمكن التعبير عنه بكلمات , لا يمكن إدراكه إلا بالصمت)) .

لايزال غصنك المكسور يؤذيك ؟ لا بأس , فمولانا الدرويش يخبرك (( ان الجرح هو المكان الذي يدخل منه الضوء إلى أعماقك , أما تُراك استمعت إلى حكايا الناي وأنين اغترابه ؟ منذ اُقتطعت من الغابلم ينطفئ بيّ هذا النواح))  , أما الجذور التي تعن عليك فهي شهقة العاشق  في ثقوب الناي , يفزز حلمه البكاء , وفي آخر مرحلة للصبر ينتحر القصب , ويقولون أن البرد يشبه الغياب , لذلك لا تتعجب إن رأيت أحدهم يرتجف قرب النار  فبرد الروح أقسى .

كنت أتسلل من حين لآخر نحو حانات النبيذ , خاصة عند الظلام الحالك من الليل ,

بإحدى الليالى أمسك بي الساقي فأعطاني جرة من ذاك النبيذ , رأيت الروح والفؤاد كلما تذوقت أزدادا ثملا وظمأ , وقررت التلصص مرة أخرى , فأمسك بى ذاك الساقي قائلا : لقد فتنت بنا , قلت : ظمأت مثلكم , كلما نظرت للعشاق و المحبين إزداد قلبي ظمئا و ثمل , قال : عليك بالإمتنان , وتحرر روحك من نفسك , لذا تراني أطرب لثمله.

ذات سهرة سمعت الدرويش يغني : (( ما مر ذكرك إلا وابتسمت له ,  كأنك العيد والباقون أيامُ ,  أو حام طيفك إلا طرت أتبعه , أنت الحقيقة والجلاس أوهامُ )) , وحين بدأ البكاء والنشيج , صاح الدرويش الآخر : (( تعلق الفاني بالفاني يفنيه ,  تعلق الفاني بالباقي يبقيه )) , ينصحونك ان تتعافى بغصنك المكسور كلما أصابتك الحياة , فإن كنت معه , تسهر الليل كله , وإن غاب عنك لا تستطيع النوم , وما أشد الفرق بين الاثنين , رغم أن كليهما أرق .

هذي الخمرُة الشاحبة السُمرَة تَتوثّبُ في الإبريق الماثلِ شُعَلاً مُستَعِرة  , وعلى نهرِ الضوءِ الناعس , تَسبَحُ دائرة أطيافُ شيخي , يَهمسُ أَحَلى ما استَحقبَ مِنْ حِيَلِ الأسلاف , شيخي تَغمُرُه اللحظة كلُّ الأطيافْ , يَتلوى و ينجرِف على صَدِرِ المَوْجَاتْ , شَيِخىِ يغرِزُ أحزان البارحة المُرّة , يصيح : الفكر يَسبَحُ في ملكوت المعاني وليس أمام المريد إلا التَدبّر, وليس أمام العارف إلا التأمل ,  قلبي ارتوى ورُوحي مسّها شغفُ الانبعاث , ويُصفّقُ للسّاقي أَنْ زِدنا لا تُبقيِ قَطْرة للصَّحوِ التافهِ فينا , لا تُبقي قَطرة.

دعني أنبئك عن فن المناجاة فحين كتبت له : (( بمجرد أن أضع قلمي على السطر لأكتبك , تنبت ألف بذرة , وتخضّر الورقة , وتُمطر سمائها حروفاً , ويحيطني عطر غاباتك , ماكتبت لك الاّ حلّت ذكراك ضيفاً , وأنتزعت قلبي,  ووضعت مكانه بين الجوانح باقة ياسمين )) , فيرد على صداها صائحا : (( مولاي هل يبصر آلام الروح سواكْ ؟ هل تترك أزهارَ الأرضِ تضيعُ سدى ؟ فأمنحنا حُبًا فوق الحبّ ,ورفقًا فوقَ الرفقِ , وصبرًا وهدى , وامسح ارواحَ عبادِك أهل الصفّة بالنورْ , واحشر عُبّادَ السحرةِ في ضيقِ الذلّ وشتتهم بدَدَا
مولاي هب للعاشقِ رشدا )) .

يقول ابن معصوم :

(( ظُبىً وَسِهامٌ أَم رَناً وَلحاظُ عَلَيها نفوسُ العاشقين تُفاظُ

وَتلك رِماحٌ أَم قدودٌ موائسٌ وَهَيهات أَعطافُ الرِماح غِلاظُ

وَما عميَت عن لينها عينُ كاشحٍ ولكن قُلوبُ الكاشحين فِظاظُ

لعمريَ لو لم ترضَ نَفسي بحبِّها لما كُنتُ أَرضى في الهوى وأغاظُ

وإِنَّ فؤادي وهو شاكٍ من الهَوى ليثنيه عن نهج السلوِّ حفاظُ

وَما جهلَت نَفسي بأَنَّ شرابَه سَرابٌ وَبَرد العيش منه شُواظُ

وَهَل عَن مَقامات الهوى متحوَّلٌ وَفيها شَتا أَهلُ الغَرام وَقاظوا )) .