تصدرت صفحة الدكتور ظاهر شوكت حكمة تقول : (( العقل كالحديقة اذا لم تزرع فيها الورود نمت الاعشاب الضارة فيها )) , ومن التجربة شاهدنا عندما تتراكم جبال الجهل , كيف تتحول الشعوذة السياسية إلى مقدّسة , فيضطر كثير من العقلاء أن يصمتوا , ثم انه قد بلغ من بعض سقيمي العقل وضعيفي الرأي أن المال يضمن له الخلود ويعطي له الأمان من الموت وكأنه حكم قد فرغ .
لما كان الحَسَن ما حَسَّنه العقل , والقبيح ما قبَّحَه العقل , ينصحنا جلال الدين الرومي بزراعة العقل ويقول : (( أنا لم آتِ لأعطيك شيئًا جديدًا لقد أتيتُ لأخرج جمالاً لم تكن تعرف أنه موجودٌ فيك )) , وهكذا فأن حسن الصورة جمال ظاهر, وحسن العقل جمال باطن , والعقل روح الحرية , وإذا تم العقل نقص الكلام , فسلّح عقلك بالعلم خير من أن تزيّن جسدك بالجواهر , وسابقا قال الجاحظ : (( ولعمري إنّ العيون لتخطئ , وإنّ الحواسّ لتكذب , وما الحكم القاطع إلاّ للعقل )) .
ندرك ان العقل البشري هو موردنا الأساسي , فهو قوة من قوى النفس لا يستهان بها , وأن أعمق خطايا العقل الإنساني أن يعتقد شيئاً دون أدلة , ويلامس عقولنا هذا الهراء الذي يملأ الأرجاء , فها هي إيران عائدة إلينا من بلاد فارس , حاملة راية فلسطين التي لا نقاش فيها , وإسرائيل تحمل شعارها الأزلي : زرع الموت بحثاً عن الوجود والحياة, والذي يستمع لتعليقات عشرات الفلسطينيين وهم يدلون بوجهات نظرهم عن الحرب الحالية فى غزة , ويقوم فى كل مرة بعمل تحليل لغوي وثقافي لما يقولونه , يجد أن كلامهم جميعاً يقول أن عقليتهم هى خلطة من : الإسلاموية/العروبة/الكراهية والبعد الكامل عن التفكير العلمي.
يقولون ان الحكمة هي خلاصة عقل يتأمل وقلب يتألم , وان الجمال في اللسان والكمال في العقل , وعندما قرأت تطاول إبن تيمية وأتباعه على الصوفيين , لم أندهش , فكيف يعيش مثلُه مع هذه القيم : (( التعددية + الغيرية + قبول الآخر + التعايش المشترك )) ؟
حضرت العديد من المؤتمرات الدولية اثناء عملي بوزارة الخارجية , ومن ملاحظاتي الراسخة في عقلي اني كنت اشاهد بعض المسؤولين عندما يجلسون يهرع شخصٌ من مساعديهم لدفع مقعدهم للأمام ليكون مناسباً لجلوسهم , وعندما يهمون بالوقوف , يتكرر المشهدُ , عندما يهرع مساعدُ كل منهم لسحبِ مقعهدِهم للخلفِ ليكون وقوف ذلك المسؤول مناسباً ,لقد كان هذا السلوكُ يحدث مع حكامِ دولٍ أفريقيةٍ وعربيةٍ وغيرها من دولِ العالم الثالث , ولكنه لم يحدث (ولا مرةٍ) مع حاكمٍ لدولةٍ غربيةٍ ديموقراطيةٍ , والمعنى شديد الوضوح ولا يحتاج لشرحٍ الا انه بالتأكيد يتعلق بالعقول .
اشار لي عقلي ان الاستمرار في الكتابة بمواضيع الادب والمقالة والجوانب الاخرى هي سلاح ثابت للقضاء على الفراغ اضافة الى صقل موهبة الانسان , وقد علمتني الحياة ان من يجيد السباحة في كل انهارها افضل من الذين يغرقون بأفكارهم ويكررون الاخطاء ويتركونها بدون تصحيح , كما انها علمتني اننا نعيش في زمن المظاهر الخداعة فاصبحنا اليوم نتناول انواع من الطعام من اجل المظاهر , وليس من اجل سد رمق الجوع , ونرتدي ملابس لا نطيق ملبسها , ولكننا نتفاخر بها , ونمتلك السيارات باهظة الثمن من اجل تحسين مظهرنا والتكبر امام الناس .
كان الحجاج يستحم في احد الأنهار فأشرف على الغرق فأنقذه أحد المسلمين و عندما حمله إلى البر قال له الحجاج أطلب ما تشاء فطلبك مجاب قال الرجل ومن أنت حتى تجيب لي أي طلب؟ قال: أنا الحجاج بن يوسف الثقفى , قال له: طلبي الوحيد أن لا تخبر أحداً أنني أنقذتك , تذكير بقيَم لم يعد لها وجود , ولا حتى قبول , لأن الشعوب لا تعير القيم أهمية في ساعات الهياج , كلما كان المرشح أخلاقياً , بدا ضعيفاً وباهتاً , الجماهير تتبع الصخب والقوة , كما قال عالم النفس الفرنسي الأشهر لُو بون , تصفق للخراب , وتَسكر برائحة الغبار والركام .
كتب احد الحكماء : (( الموضوع الذى حيّرني أكثر من أيّ موضوعٍ آخر هو علاقة المصريين بالحاكمِ على مدارِ القرون , وهى علاقة تتجاوز العلاقات البشرية وتشبه علاقة البشرِ بالإله , فى فتراتٍ إعتقدتُ أن الحاكمَ هو المسؤولُ , وفى فتراتٍ أخرى كان لومي متجهاً صوب المصريين , وفى فتراتٍ كنت أراها (علاقة المصري بالحاكمِ) كضفيرةٍ جدلية (دياليكتيكية) يشترك الطرفانُ فى خلقِها ورفعِها وتقريبها من العلاقةِ بين المخلوقِ والخالقِ , منذ ألف سنة , جاء أعظمُ شعراء العربية لمصرَ ووجد على سدةِ الحكم كافور الإخشيدي (ومعرف من هو) وذُهِلَ المتنبي من مديحِ المصريين لكافور ومن وصفِهم له بأن بدرُ الدجى )) .