يريد المندلاوي الجميل أن يعلمنا كيف يجب ان نقرا التاريخ , ويطلعنا على بيت الشاعر مصطفى جمال الدين الذي يخاطب بغداد : (( وحذار ان تثقي برأي مؤرخ للسيف لا لضميره ما يسطر )) ,  ويقول عنه انها لحكمة بالغة في تاريخ الشعوب , مما ذكرني بالمثل الشعبي المعروف (( الحك للسيف , والعاجز يدور شهود )) , وبعيدا عن متطلبات الزمان والمكان ,لابد من الأقرار أن الأسلام أمة ماضوية , وقد قال المفكر السعودي عبد الرحمن منيف (( أن العرب أمة تعيش في الماضي , وان التاريخ يلهمها أكثر ممن يعلمها في الواقع , لذلك فهي لاتحسن التعامل مع الزمن الذي تعيشه , وهذا هو السبب في تخلفها )) .

يقول معروف الرصافي : (( ما كتب التأريخ في كل ما روت …  لقرائها إلا حديث ملــــــــفق , نظرنا لأمـــر الحاضرين فرابنا …  فكيف لأمر الغابريـن نصدق )) ,  هناك تاريخ لا يرحل وكأنه حالة مزمنة لا ترياق يزيح ثقلها , الجغرافيا قوة فاعلة مزمنة , وكذلك هي الثقافة والتاريخ , على خريطة الورق الكونية , تمتد خطوط طول وعرض , وتسكن دول لها وجود في حدود , على ورق الخرائط سكنت إمبراطوريات , وحكمت سلطات , وكانت أمم , إمبراطوريات حكمت من يليها , بقوة السلاح يحمله رجال , من الإسكندر الأكبر, الى الفرس , إلى الرومان , وقبلهم الفراعنة , وبعدهم العرب , ذهب من ذهب وبقي من بقي , تكوين حضاري وثقافي ظلَّ يرفع رأسه فوق قبة الوجود الإنساني الممتد عبر الزمن , ولكن الجميع أو لنقل معظمهم من رجال الدين (( السنة والشيعة )) على حدآ سواء لا يريدون لنا أن ننظر من خلال ما نراها في بطون أمهات كتب التاريخ , ولكن من خلال ما يرونه ويصورونه لنا.

قطع رأس الحسين وأودع عند عبيد الله بن زياد , وقطع رأس عبيد الله وأودع عند المختار الثقفي , وقطع رأس الثقفي وأودع عند مصعب بن زبير, وقطع رأس مصعب وأودع عند عبد الملك بن مروان , وما زالت الرؤوس تقطع وترمى على الطرقات والقتلة مجهولون,  والتاريخ الهمجي يكرر حماقاته ونحن ضحاياه المكررون , (( تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم , ولا تسألون عما كانوا يعملون(( , الدنيا في مساراتها الصاعدة , والعديد من كراسي الأمة متقهقرة في مغارات الماضيات الفاعلات في الحياة ,أذهلني خطاب أحدهم وكأنه منقطع عن الدنيا , ومتلبس بأوهامه , ويريد أن يثأر للأموات من الذين غادروا منذ عشرات القرون , إنه لأمر مذهل ومحير , وتعبير عن الخواء والعداء السافر للحاضر والمستقبل , وتدمير للوجود الذاتي والموضوعي للأجيال.

تُرى ما فائدة الإنشغال بالماضيات ونبش قبور السالقات , والتوهم بأننا في لحظة زمنية خالدة توقفت عندها الأرض عن الدوران , وعلينا أن نتوطن دوائرها المفرغة المناهضة لبديهيات الأفهام؟ لا يوجد تفسير إلا أنها متاجرة , وآلية تدر أرباحا طائلة على مروجيها والعاملين بموجبها , ولهذا يكون من الضروري تعزيز التغفيل والتجهيل وتمرير الدجل والتضليل , وبموجب ذلك لن تتحرر المجتمعات المستهدفة من القهر بأبسط الحاجات اللازمة للحياة , وعلى الفساد أن يكون دستورا , والحكومة بلا هيبة , والقانون حبر على ورق , والكيل بألف مكيال ومكيال , يؤمن مسيرة الإضطراب والضحك على رؤوس البرايا , وتحويلها إلى قطعان ضاوية في ميادين الخطايا.

عندما نقرأ للمؤرخين المعروفين كالطبري , اليعقوبي , المسعودي , البلاذري وإبن كثير , وغيرهم , نتحير أمام ما دونوه عن حدث واحد , وهم ما شاهدوه أو عاشوه , إنهم نقلوا عن فلان وفلان وبعد قرون , فهم في العصر العباسي ويكتبون عن أحداث حصلت قبل أكثر من قرن , فتجد قصصا متضاربة لا يقبلها العقل المعاصر , لكنها ترسخت بالتكرار , على أنها الصدق بعينه , كتب التأريخ يختلط فيها الغث والسمين , والحابل بالنابل , والكذب والصدق , والإختلاق والحقيقة , ومعظمها تعبيرات عن عن آراء الكتاب , وفقا لمدى إقترابهم وبعدهم عن الكرسي المتحكم بمصير البلاد والعباد , فلا توجد مدونات تأريخية موضوعية , وخالية من عسل السلطة وضرورة التكسب بالمكتوب , فما خطته الأقلام كان من أجل الإرتزاق , وهذه مهنة سائدة وتدر مالا على أصحابها , فكانوا يهدون كتبهم للذين يتوقعون منهم عطاءُ مجزيا , ولابد من القول أن الجاحظ أهدى كتاب الحيوان لوزير المتوكل عبد الملك الزيات , وباقي كتبه لغيره , ونال على ذلك مالا وفيرا , فلا بد من القراءة المتعقلة للتأريخ , وعدم فصل ما مكتوب عن زمانه ومكانه , ولا يجوز القول بأن المدون مقدس , فهو من نضح عقول عصره وظروفه , وليس مخلدا أو مطلقا , كما يجري العمل على إيهام وخداع الأجيال , و(( الشعوب المقهورة تسوء أخلاقها )) .

عند أسوار التاريخ , مرّت بي قَوافل رجال ونساء , وسمعت رُغاء إبل ونُباح كلاب , وتهادى لِسمعي هدير قطارات , ومنبهات سيارات وباصات , ورأيت نساكاً وفقهاءَ يطاردون الشيطان , وعبيداً مخصيين وسبايا شبه عاريات , وأنصاف آلهة يهرولون  جلجامش , هرقل , أطلس الموريطاني , ورأيت أخيل  , وغاليلي , ونيرون , وكافكا
وعطيل , وابو نواس , وحسان ابن ثابت , وأبو عبد الله الغالب , ورأيت المهدي بن تومرت ,ومولاي بوشعيب الردّاد , والسيدة الحرة , وشويخ مكناس , وأبو المسك كافور والمتنبي , وضبة الأسدي , الى ان أخبرتني عرّافة ذات رؤية , أضاعت وِدْعها في ليلة ظلماء : أن ريح العشيرة تنفخ في صدري نَزعة العصبية , وأن جينات الأسلاف تخنق خلايا دماغي , وتجبرني على التصرف بغموض , يفتك بمصداقيتي , ويوصد أبواب الحقيقة في وجهي , قالت بصوت عميق : تخلص من الوصاية , تحرر من الأغلال , تفيأ ظلال الحقيقة,وفَكِّر من علو باسق.