قرأت في كتاب البصائر و الذخائر ان العرب تقول في أمثالها : (( الطيور على أشكالها تقع )) , وقد روى الأصمعي قائلًا: (( كنت أسمع هذا المثل يُقال : (( وعلى أُلّافها الطير تقع )) , فلم أكن أفهم معناه على وجه الدقة , حتى شاهدت مجموعة من الغربان , فإذا بها تتجمع على هيئة لافتة للنظر: فالسوداء مع السوداء , والمبقعة مع المبقعة , فاستغربت هذا التآلف , ثم رأيت رجلًا أعرج قد سقط , فجاءه رجل آخر مكسور الجناح , فجلس إلى جانبه , فعندها أدركت حقيقة المثل , وعلمت أن القول لم يذهب سدى )) , والحكمة من هذا المثل : هي أن الناس تميل إلى من يشبهها في الطباع , والسلوك , والميول , والأخلاق , فكل إنسان ينجذب إلى من يشاركه نفس الصفات أو التجارب أو الاهتمامات.
ان هذا المثل العربي القديم ينقل الينا حكمة متوارثة عبر الأجيال , تحمل في طياتها دلالات عميقة حول التوافق والتجانس بين الأفراد , إنها تشير إلى أن كل كائن يميل إلى الانضمام إلى من يشبهه في الطباع , الأهداف , أو حتى المصالح , وفي سياق لا يخلو من الألم , يمكننا اليوم أن نرى هذا المثل يتجسد بوضوح قاسٍ في واقع بلادنا , ليصبح مرآة تعكس حجم الفساد المستشري وتكشف عن آلياته المعقدة , ففي العراق , حيث أصبحت ظاهرة الفساد كابوسًا يطارد أحلام المواطنين ويقوض أسس الدولة , نجد أن (( الطيور على أشكالها تقع )) , ليست مجرد مقولة بل هي واقع معاش , إن المتأمل في المشهد السياسي والاقتصادي العراقي يرى بوضوح كيف يتجمع الفاسدون على اختلاف مواقعهم وتنوع أشكالهم , فمن المسؤول الكبير الذي يختلس أموال الشعب , إلى الموظف الصغير الذي يرتشي لتمرير معاملة , مرورًا بالمتعهد الذي ينفذ مشاريع وهمية أو رديئة , جميعهم يقعون في فئة واحدة , يربطهم خيط رفيع من المصالح المشتركة والانتفاع غير المشروع.
لقد خلق الفساد في العراق شبكات متداخلة ومتشابكة , تعمل بمنطق (( الطيور على أشكالها تقع )) , فكل من يشارك في حلقة الفساد , سواء كان داعمًا أو مستفيدًا , يجد نفسه جزءًا من منظومة تتوافق مع مبادئه المنحرفة , إنها ليست مصادفة أن نرى شخصيات متورطة في قضايا فساد تظهر مجددًا في مناصب عليا , أو أن تتغاضى جهات رقابية عن ممارسات غير قانونية , ففي كثير من الأحيان , يكون هؤلاء جزءًا من نفس (( الطيور)) التي تتجمع لتحقيق مصالحها الخاصة على حساب الصالح العام , هذا التوافق الفاسد لا يقتصر على المستوى الفردي , بل يمتد ليشمل كيانات وأحزابًا وجماعات , فنجد تكتلات سياسية تتشكل على أساس المصالح الضيقة , وتتقاسم المناصب والامتيازات , وكأنها (( طيور)) من نفس النوع تتجمع لتنهب خيرات الوطن , إن هذه التجمعات الفاسدة لا يهمها سوى استمرار نفوذها وتقاسم الكعكة , غير آبهة بما يترتب على أفعالها من تدمير للاقتصاد الوطني , وتراجع للخدمات , وتفاقم لمعاناة الشعب.
إن ما يزيد الطين بلة هو أن هذه (( الطيور الفاسدة )) , تتقن فن التخفي والتلاعب , وتستخدم كافة الوسائل للحفاظ على وجودها , تتستر خلف الشعارات الرنانة , وتتظاهر بالحرص على المصلحة الوطنية , بينما هي في الحقيقة تعمل على هدمها من الداخل , إنها تستغل ضعف القانون , وتستغل الثغرات الإدارية , وتستخدم نفوذها السياسي لحماية بعضها البعض , ضامنة بذلك استمرارية هذه الدائرة المفرغة من الفساد , لكن , يبقى الأمل معلقًا على وعي الشعب العراقي بضرورة كسر هذه الحلقة المفرغة , فإدراك أن (( الطيور على أشكالها تقع )) يمكن أن يكون بداية لإحداث التغيير, فعندما يرفض المواطن أن يكون جزءًا من هذه المنظومة الفاسدة , وعندما يصر على محاسبة (( الطيور)) التي تنهب ثرواته , وعندما يطالب بتطبيق القانون بصرامة على الجميع دون استثناء , حينها فقط يمكن أن يبدأ العراق في التعافي من هذا الوباء الذي نخر عظامه.
الفاسد لا يقول أنا فاسد , والذي يتهمه بالفساد يحسب من الحاسدين , والعدوانيين على معشر الأشاوس الأبرار المؤمنين , وتلك مآسي المجتمعات التي أفرغت رؤوس الأجيال من المعارف العلمية المعاصرة , وحشتها بدين الفقهاء المتاجرين بالبشر بإسم الدين , حتى تحول الناس إلى قطيع في حظائر الراتعين في ثراء وخيم , والمنفذين لإرادات الآخرين , فأربابهم وأسيادهم وأولياء أمورهم ونعمهم يحللون لهم ما يشاؤون , بشرط أن يفعلوا ما يطلبونه منهم , وكذا ناعور الخيبات على رؤوس المقهورين يدور,هل عمرك يا صاحبي سمعت بدولة تُباع وزاراتها في المزاد السياسي , وتكون الوزارة الفلانية ملكاً لوزيرها وحزبه وعائلته.. وهكذا دواليك ؟ في البحث الحرفي عن الفساد , أنواعه , درجاته واسبابه ,علينا أن لا ننظر إلى الأمور من خلال عين الود أو عين الكراهية لأننا عند ذلك نُضَيِّع المعنى ونُضَيِّع أنفسنا معه , إن المعركة ضد الفساد في العراق هي معركة طويلة وشاقة , ولكنها معركة تستحق أن نخوضها , فالمثل القديم , وإن كان يعكس واقعًا مريرًا , يحمل في طياته أيضًا دعوة لنا لنفهم طبيعة المشكلة , ولنعمل على بناء مجتمع تكون فيه ((ألطيورالصالحة )) هي التي تتجمع وتنهض بالبلاد , بعيدًا عن مستنقع الفساد الذي أغرقها , هل يمكن للعراق أن يكسر قيود هذه (( الطيور الفاسدة )) ويحلق نحو مستقبل أفضل؟ .