لفت انتباهي عنوان كتاب د . رشيد الخيون (( طروس أخر من التراث )) , وكلمة ((الطِّرْسُ )) تعني الصحيفة أو الكتاب الذي مُحيت كتابته ثم أُعيدت الكتابة عليه , وقد تأتي بمعنى (( فعل الكتابة )) , أو (( فعل المحو )) حسب السياق , وجمعها (( طروس )) , أو (( أطراس )) , والفعل من المادة هو (( طَرَسَ )) بمعنى كتب أو محا , و(( طَرَّسَ )) بمعنى شدد المحو أو إعادة الكتابة. وتُستخدم الطروس عادة من الرقوق (جلود الحيوانات) نظرًا لقدرتها على تحمل الكشط والغسل , مما يسمح بإعادة استخدامها مرات عديدة , ومخطوطات صنعاء هي مثال شهير على الطروس , حيث توجد مخطوطات قرآنية مكتوبة فوق نصوص أقدم , وكان الصحابة يفضلون الكتابة على البردي , أما الأمويون ففضلوا الرق لأنه يسمح بالكشط وإعادة الكتابة , بينما أمر هارون الرشيد بتحرير الوثائق الرسمية على الورق لأنه لا يقبل التزوير أو المحو.
تُظهر الطروس التاريخية عمليات إعادة كتابة النصوص فوق بعضها البعض , مما يعكس قيمة المواد التي تحتويها , وفي الحديث : كان النَخَعِيُّ يأْتي عبيدة في المسائل فيقول عبيدةُ : طَرِّسْها يا أَبااِبراهيم أَي امْحُها , يعني الصحيفة , يُقال: طَرَّسْتُ الصحيفة إِذا أَنعمت محوها , وطَرَسَ الكتابَ : سَوَّده , وعن ابن الأَعرابي : المُتَطَرِّسُ والمُتَنَطِّسُ المُتَنَوِّقُ المختار , وقال المَرَّارُ الفَقْعَسي يصف جارية : (( بيضاءُ مُطْعَمَةُ المَلاحةِ , مِثْلُها لَهْوُ الجَليسِ ونِيقةُ المُتَطَرِّسِ )) , وقد وردت هذه الكلمة في أشعار يزيد بن معاوية : (( مَتى تَنْسُجِيها مِنْ غَزْلِها يَتَكَشَّفُ *** كَأَطْراسِ صُحُفٍ في مَناطِقِها تَخالِفُ)) , في هذا البيت , تشبه الصحائف (الأطراس) بالصفحات التي بها اختلاف, كما وردت أيضاً في قول الشاعر أبي ذؤيب الهذلي : (( فَكَأَنَّهَا إِذَا تَنَاطَرَتِ المُسْتَحِيلَةُ *** سِهَامٌ يَتَلُّقُهَا صُدُورُ أُطْرَاسِ)) , وهو هنا يصف هنا الطروس بأنها تجمع الصفحات المتناثرة التي تحمل السهام , و قول الشاعر لبيد بن ربيعة : (( وَالْأَيْمُ تَتْرُكُهَا كَأَنَّ بِهَا *** أَثَرَ الْأَسَفِّ وَبَعْضُ مَا طَرَسَا)) , يشير إلى أن الأيام تترك آثاراً على القلوب , كأنها طروس غُطيت ببعض الأثر الممتع. كلمة “طرس” تُعدّ من المفردات الشائعة في الأدب العربي القديم، وتدل على استخدام الصحف والكتب في العصور الأولى.
نعود لرشيد خيون , حيث يتعمق كتابه (( طروس من تراث الإسلام )) في الأرشيف التاريخي الغني والمتعدد الأوجه للحضارة الإسلامية , ويفحص بهذا العمل العميق بدقة مخطوطات ونصوصًا منسية مختلفة , مسلطًا الضوء على السرديات والأفكار والأحداث التي شكلت المشهد الفكري والثقافي للعالم الإسلامي , ويتنقل الخيون , بصرامته العلمية , عبر حقب تاريخية معقدة , مقدمًا فرصة فريدة لاستكشاف تعقيدات الفكرالإسلامي وتطوره , حيث يعتبر الكتاب موردًا حيويًا لفهم الجوهر الحقيقي للتراث الإسلامي , وتحدي الآراء التقليدية وتعزيز تقدير أعمق لمساهمات الأجيال السابقة, ونحن نعلم ان رشيد الخيون هو كاتب علماني يسعى لتأصيل العلمانية في التراث الإسلامي .
يقف مشروع رشيد الخيون البحثي والثقافي مثل جسر يصل بين الماضي والحاضر بكل إشكالياتهما , فهو باحث دؤوب يبني جسورا نقدية متينة بين الماضي والحاضر , مع كشف النقاط المضيئة في التاريخ الإسلامي والبناء عليها , لإنقاذ الحاضر من التصورات القاصرة للتاريخ والتي أقحمت العرب في فهم منقوص لماضيهم بل هو فهم مشوّه , وهذا ما يقاومه الباحث بدقة وإصرار, إيمانا منه بأن معالجة الحاضر لا تأتي إلا من خلال معالجة نظرتنا إلى ماضينا بعقلانية وتوازن , ولذا فهو يواصل الحفر في الحضارة الإسلامية بحثا عن الحقائق , وهولا يقف في بحوثه عند المظاهر المضيئة في الحضارة الإسلامية بل يقدم رؤاه النقدية والكاشفة , بتحقيقه لواحد من أهم مصنفات الحضارة الإسلامية , ويواصل الحفر في المناطق البعيدة من الحضارة الإسلامية وكشف دررها وأخبارها وإعادة طرح أهم القضايا الفكرية والدينية , التي تثبت ثراء الحضارة العربية وحركيتها التي منحتها المجد في أوقات سابقة.
لا يقف الخيون عند المظاهر المضيئة في الحضارة الإسلامية فقط , بل يقدم رؤاه النقدية والكاشفة , إذ لا يسقط مثلما يفعل الكثير من الباحثين في التمجيد إلى حد التزييف , بل يستكشف مظاهر كثيرة مجهولة , ويعيد إحياءها والبحث فيها لتأسيس خطاب نقدي للواقع العربي اليوم , إذ يعود إلى الماضي لنقد ظواهر أحبطت النهضة العربية مثل التشدد والتطرف والانغلاق ومقاومة التجديد وغيرها , ويؤكد أن الأزمة ليست في التراث بحد ذاته , بل في طريقة التعامل معه وقراءته , لذلك , يسعى إلى استخدام منهج نقدي تحليلي يركز على سياقات النصوص التاريخية وأسباب نزولها , وذلك حتى يُمكن إحياء روح الاجتهاد والعقلانية في الفكر الإسلامي, ما يفتح المجال لفهم منفتح يتناسب مع مصالح الناس في كل زمان ومكان , ويرى أن التجديد في قراءة التراث (( أساس إصلاح الخطاب الديني )) , وتحريره من الأيديولوجيا المتشددة التي أدت إلى العنف والتكفير , وتجاهل أن الدين رحمة وتسامح وليس أداة قمع وسيطرة , ويؤكد على أهمية الحوار الداخلي والحوار مع الآخر, لا سيما في عصر العولمة التي قاربت بين الشعوب وبين الثقافات والحضارات المختلفة .
في طروسه , يرى الخيون مثلا , أن المعتزلة في الفكر الإسلامي مثلوا (( نموذجاً تاريخياً للعقلانية والتنوير )) , لأنهم (( قدموا العقل على ما سواه )) , وجعلوه أولوية في الفكر, وركزوا على تحرير العقل من قيود النصوص الجامدة , ويذهب إلى أن المعتزلة قدمت العديد من المقولات الأكثر تقدماً من الواقع الحالي , ويرى أن فرقة المعتزلة لو تمكنت من الاستمرار لكان تطور العلوم والاختراعات عند العرب أسرع بكثير, ويوضح أن ما ذهب إليه المعتزلة كان محاولة لاستعادة (( روح الاجتهاد )) , و(( حرية المكلف )) التي فُقدت في عصور لاحقة , ويدرس العلاقة بين الدين والسياسة وفق منظور تاريخي نقدي , يعيد النظر في التاريخ الإسلامي وصولاً إلى الحركات الإسلامية المعاصرة , ويرى أن الدولتين الأموية والعباسية استخدمتا الدين كأداة سياسية , وتجاهلا دوره كعقيدة روحية , فالأمويون والعباسيون استخدموا الخطاب الديني بطرق مختلفة لخدمة أغراضهما السياسية , الأمر ذاته الذي تمارسه الحركات الإسلامية المُعاصرة , ويؤكد أنه لا وجود للدولة الدينية في الإسلام , وأن خلط الدين بالسياسة خلق حالة من تقديس الممارسة السياسية عند الإسلاميين , فأصبح أي نقد للممارسات السياسية لهذه التيارات الإسلامية نقداً للدين نفسه , الأمر الذي يقف حائلاً ضد التطور ويبرر العنف.
ويتفق الخيون مع الشيخ الأزهري علي عبدالرازق (1888 – 1966م) , الذي ذهب في كتابه (( الإسلام وأصول الحكم )) إلى أن الخلافة ليست من أصول الدين , وربطها بالدين تسييس للدين , لذلك , يرفض ما تسعى إليه الحركات الإسلامية المُعاصرة من بناء (( دولة إسلامية )) , إذ يرى أن الهدف منها فرض السيطرة وإلغاء العقل ومحاربة المدنية والتفكير العلماني , وختاماً , يشدد المفكر العراقي رشيد الخيون على أهمية العقل , ويطلق عبارته الشهيرة (( لا إمام سوى العقل )) , ويدعو إلى تحريره من سيطرة الأيديولوجيا بأنواعها , ويرى في أن هذا التحرر العقلي أساس أي نهضة حقيقية , إضافة إلى دعوته إلى بناء فكر عربي نقدي معاصر, قادر على مساءلة ذاته والتعامل مع التحديات المُعاصرة بمنهج عقلاني , ويدعو إلى التعايش والحوار مع الآخر, ويشدد على أهمية التسامح الديني خصوصاً في عصر العولمة الذي تتقارب فيه الشعوب وتختلط , ويدعو إلى (( الحداثة المفيدة )) التي تحقق مصالح وأهداف المجتمع العربي.