قلّ أن حملت قصة من قصص الحب عند العرب من الوجوه والدلالات , ونفذت إلى المناطق المتداخلة للعلاقة بين العشق والموت , كما هو حال العلاقة التي جمعت بين وضاح اليمن وأم البنين زوجة الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك , ففي هذه القصة تحضر بكامل عدّتها , العناصر المتصلة بالغواية والافتتان بالحياة والشهوة المحرمة , فيما تظهر بالمقابل الكلفة الباهظة للجمال , والأنياب السوداء للموت المنتظر ضحاياه عند مفترقات الغفلة اللاهية.
وضاح اليمن ,شاعر حلو اللسان , مشرق الوجه وشديد الوسامة لدرجة أنه كان يتجول بلثام على وجهه , خوفاً من العين والحسد , وكغيره من الشعراء أمضى صاحبنا حياته بنسج أشعار الغزل التي تروي عشقه لهذه وهيامه بتلك , واسم شاعرنا ليس وضاحاً , فهو عبد الرحمن بن إسماعيل الخولاني , وهو يمني من خولان القريبة من صنعاء والتي لا تزال تحمل الاسم نفسه حتى يومنا هذا , أما نسب وضاح اليمن فيعود إلى حمير فقحطان , وقد أطلق عليه هذا اللقب في الواقع لوسامته وحسن وجهه , فقد كان وجهه مشرقاً وجميلاً لدرجة أنه كان يخشى على نفسه من العين والحسد فلا يتجول إلا بلثام يخفي وجهه , ولا يرفع لثامه ذاك إلا عند الحاجة, وعاش وضاح اليمن في نهايات القرن السابع الميلادي في كنف الدولة الأموية , وقد كان عاشقاً متيماً مر في حياته عدد من النساء اللواتي لم يبخل عليهن بأشعار الغزل والهيام , وكانت من بينهن امرأة يمنية تدعى روضة بنت عمرو , عشقها وضاح وكتب فيها كثيراً من أبيات الغزل , لكنه لم يتزوجها في نهاية المطاف , ومما قال فيها : (( قالت ألا لا تلجن دارنا إن أبانا رجل غائر , قلت فإني طالب غرة منة وسيفي صارم باتر , قالت فإن القصر من دوننا قلت فإني فوقه ظاهر,قالت فإن البحر من دوننا قلت فإني سابح ماهر , قالت فحولي إخوة سبعة قلت فإني غالب قاهر, قالت فليثٌ رابض بيننا قلت فإني أسد عاقر, قالت لقد أعييتنا حجَّة فأت إذا ما هجع السامر)) .
أما قصته مع أم البنين , زوجة الخليفة فيحكى أن قصة حب نشأت بين وضاح اليمن وأم البنين , زوجة الخليفة الوليد بن عبد الملك, بدأت القصة عندما استأذنت أم البنين زوجها للذهاب إلى الحج , ولما بلغت مكة أرادت أن يقال فيها أبياتاً من الشعر, ولم يكن ذلك أمراً غريباً , فقد سبق أن قيل شعر بغيرها من الحرائر, دون ذكر أسمائهن في الأبيات , مثل ما حدث مع أخت زوج أم البنين فاطمة بنت عبد الملك , زوجة عمر بن عبد العزيز التي رآها أحد الشعراء في مكة فقال فيها : ((بِنتُ الخَلِيفَةِ وَالخَلِيفَةُ جَدُّها أُختُ الخَلِيفَةِ والخَلِيفَةُ بَعلُهَا …فَرِحَت قَوَابِلُها بِهَا وتَبَاشَرَت وَكَذاكَ كانوا في المسرَّةِ أَهلُهَا)) , وهكذا, طلبت أم البنين من الشاعر المعروف بـكُثيرعزة أن يمتدحها بأبيات من الشعر لكنه رفض خشية بطش الوليد , فقد كان الوليد قد توعد كل من تسول له نفسه أن يذكر زوجته بأبيات من الشعر, لكن وضاح اليمن تجرأ على القيام بهذه المهمة , خاصة بعد أن سحره جمال أم البنين التي اشتهرت بحسنها.
سُحرت أم البنين بدورها بوضاح اليمن الذي لا يخفى على أحدٍ جمال وجهه وحلاوة لسانه , وطلبت منه أن يتبعها إلى الشام بعد انتهاء موسم الحج ووعدته بأنها ستوفر له الحماية , ونصحته بأن يكيل قصائد المدح للخليفة كي يغفر له مدحه لها , واعدةً إياه بأنها ستعمل على رفع شأنه عند الخليفة , وهذا ما كان.
بعد انتقال وضاح اليمن إلى الشام , تطورت علاقته على ما يبدو بأم البنين , وقد وردت قصتهما في بعض المراجع مثل “كتاب الأغاني” للأصفهاني , كما رواها الأديب طه حسين في كتابه “حديث الأربعاء” , وقد خلد التاريخ بالفعل كثيراً من الأشعار التي قالها وضاح اليمن في أم البنين , ومنها:
(( صدع البيـن والتَّفرق قلبي وتولَّتْ أمُّ البنينَ بِلُبِّي
ثوتِ النفسُ في الحُمُولِ لَدَيها وَتَوَلَّى بالجسم مِنِّي صَحبي
ولقد قُلتُ والمدامعُ تجـري بدموعٍ كأنها فَيْضُ غرب
جزعاً للفراقِ يومَ تَوَلَّت: حَسْبيَ اللهُ ذو المَعَارِجِ حَسْبي!))
كما قال فيها:
(( حتَّامَ نكْتُم حُزنَنا حَتَّاما وعلام نَسْتَبْقِي الدُّموع علاما
إنَّ الذي بي قد تفاقمَ واعتلى ونما وزادَ وأورث الأسقاما
قدْ أصبحتْ أمُّ البنينَ مريضة نَخْشى ونُشْفِقُ أنْ يَكونَ حِماما
يا ربَّ متعني بطولِ بقائها واجبرْ بها الأرمالَ والأيتاما )) .
ووفقاً للحكاية , فقد راح وضاح اليمن يتردد خلسة على مضجع أم البنين من حين لآخر, وقد شعر بذلك بعض الخدم وتربصوا به , وفي يوم من الأيام أُهديت إلى الخليفة الوليد جواهر أعجبته وقرر إرسالها إلى زوجته أم البنين , وبالفعل أرسلها إلى مخدعها مع أحد الخدم , وعندما وصل الخادم إلى الغرفة كان وضاح اليمن مع أم البنين التي فزعت من مجيء الخادم وطلبت من وضاح الاختباء في أحد الصناديق , لكن الخادم أخبر أم البنين بأنه يعلم بوجود وضاح في الغرفة وطلب منها أن تعطيه الجواهر مقابل سكوته عنها , لكنها نهرته وأمرته بالانصراف , فما كان منه إلا أن ذهب على الفور ليخبر الخليفة بما رأى , أمر الخليفة بقطع عنق الخادم لافترائه على السيدة أم البنين , لكنه توجه إلى مخدع زوجته على الفور, فوجدها جالسة بكل هدوء على أحد الصناديق تمشط شعرها, لم ينفجر الخليفة غضباً في وجه زوجته , بل طلب منها بكل دهاءٍ أن تهبه أحد الصناديق الكثيرة الموجودة في غرفتها , فأخبرته بأخذ ما يريد , فطلب الصندوق الذي يختبئ فيه وضاح اليمن , حاولت أم البنين في البداية أن تثنيه عن أخذ الصندوق بحجة أن فيه كثيراً من متاعها , لكن عندما أصر لم يكن باستطاعتها سوى أن ترضخ لرغبته, وقيل إن الخليفة أمر بأخذ الصندوق وحفر حفرة عميقة للغاية ثم رمى الصندوق فيها وأمر بردمها في التراب , ويقال إنه خاطب الصندوق قائلاً: إذا كان ما بلغنا حقّاً, فقد كفّنّاك , ودفنّاك ودفنّا ذكرك , وقطعنا أثرك إلى آخر الدهر, وإذا كان باطلاً فإنّا دفنّا الخشب , وما أهون ذلك.
وكان الخليفة المغتاظ قد همّ غير مرة بقتل وضاح , ولكنه تراجع عن قراره بعد أن قال له ابنه عبد العزيز (إن قتلته فضحتني وحققت قوله وتوهّم الناس أن بينه وبين أمي ريبة) , إلا أن صبر الوليد نفد تماماً حين علم بأن تجرؤ الشاعرعلى بيت الخلافة قد تعدى أم البنين , ليطال سمعة أخته فاطمة بنت عبد الملك , التي كانت زوجة سلفه الراحل عمر بن عبد العزيز , فقرر التخلص منه بأسرع وقت ممكن , وانقطع ذكر وضاح اليمن منذ ذلك اليوم واختفى أثره فلم يعلم عنه شيء , وأما الخليفة الوليد فلم تتغير علاقته بزوجته أم البنين حتى فرّق الموت بينهما.
وقد وظف كل من أدونيس وعبد الوهاب البياتي قصة (وضاح اليمن) وعلاقته بزوجة الوليد بن عبد الملك , كتعبيرٍ للظلم واَلإضطهاد للفرد العربي من قبل الحكام والأفكار والديانات , فيقول أدونيس : (( وأُنزلَ الصندوقُ في البئر, مثلك ياوضاح , وكلّ حبٍ يعيش , وكلّ حبٍ يموتُ في صندوق )) , وكذلك الحال لدى البياتي : ((مت ُبصندوقٍ والقيتُ ببئر النيل , مختنقا مات معي السر , ومولاتي على سريرها )) .