عام 2002 وردت اشارة الى السفارة من احدى الطالبات العراقيات في المدرسة الدولية في جنيف بأنهم يعرضون فيلما باللغة ألأنكليزية في درس ألأعلام فيه أساءة للرئيس العراقي , حيث أنهم يظهرونه مع ستالين وموسوليني وهتلر , ويقدمون شرحا لحياة كل منهم , وقد أتصل بي أحد المسؤولين في الدولة , وأبلغني بضرورة متابعة الموضوع بسرعة والعودة الية لأبلاغه النتائج , قمت بزيارة مدير المدرسة بعد ان تهيأت جيدا واستحضرت أشد عبارات اللوم والتقريع , لأخاطب أدارة المدرسة فيها لخروجها عن الحياد المفترض ان تلتزم به في دروسها , ولكني فوجئت ان الفلم ليس كما فهمته هذه الطالبة , وأنما يشرح كيف يقوم ألأعلام بشيطنة الشخصيات التي يعاديها , وأن ورود اسم الرئيس العراقي كان دفاعا عنه لا كما نقل الى المسؤول الذي أتصل بي .
أوضح مدير المدرسة الدولية , كيف تحرق نيران الإعلام الشخصيات بالشيطنة , شارحا ان عملية الشيطنة في سياق الإعلام , استراتيجية تهدف إلى تشويه صورة شخص أو مجموعة أو فكرة معينة بشكل ممنهج , وأن هذه العملية ليست جديدة , ولكن تأثير الإعلام الحديث , خاصة الرقمي , جعلها أكثر انتشارًا وقوة , وتتكون آليات الشيطنة الإعلامية بأستخدام طرق التضخيم والتشويه , وكيف يتم انتقاء جوانب سلبية أو أفعال معينة وتضخيمها بشكل مبالغ فيه , بينما يتم تجاهل أو التقليل من أي جوانب إيجابية , أضافة الى التعميمات السلبية , وكيف يتم إطلاق أحكام عامة وسلبية على الشخص أو المجموعة بناءً على أفعال فردية أو حالات محدودة , والربط السلبي , حيث يتم ربط الشخصية المستهدفة برموز أو أفكار سلبية ومرفوضة اجتماعيًا , والتجريد من الإنسانية, بأن يتم تصوير الشخصية المستهدفة بطريقة تجعلها تبدو أقل إنسانية , مما يسهل كراهيتها أو العنف ضدها , واستخدام الصور النمطية السلبية , بالأعتماد على قوالب جاهزة وسلبية لترسيخ صورة نمطية بغيضة في الأذهان , وبالتكرار والإلحاح الذي يساهم في ترسيخ كراهية الشخصية في الوعي الجمعي.
في إحدى المرات زار ستالين أحد مصانع النسيج في لينينغراد , و لشدة خوف إدارة المصنع من شخصيته و جبروته , قامت بتكليف أحد صغار المهندسين ليشرح لستالين عملية الإنتاج و التوزيع و التسويق للمصنع و الرد على تساؤلاته , وقد نفّذ هذا المهندس الصغير التكليف بكل جرأة و معرفة و نجاح , إلى درجة أدهشت ستالين و إدارة المصنع , و فور انتهاء زيارة ستالين لمدينة لينينجراد و عودته إلى مكتبه في الكرملين بموسكو أصدر قرارا بتعيين هذا المهندس الصغير وزيرا لصناعة الغزل والنسيج في الاتحاد السوفيتي , و شهدت صناعة الغزل و النسيج تطورا ملحوظا في عهده , لقد كان ذلك المهندس الصغير هو ( ألكسي كوسجين ) الذي أصبح فيما بعد أشهر و أنجح رئيس وزراء عرفه الاتحاد السوفييتي , وقرب نهاية الحرب العالمية الثانية إستدعى الزعيم الألماني النازي أدولف هتلر أحد كبار مستشاريه الهندسيين الذي عمل معه طيلة سنوات الحرب و أمره بإعداد كشف بأمهر المهندسين المتخصصين الألمان في كل المجالات , و إحضاره إليه في أسرع وقت , وعندما نفذ المستشار الهندسي الطلب و أحضر القائمة الى هتلر أمره هتلر بأن يأخذهم جميعا في عربات إلى مكان حدّده له بعيدا عن التعرّض لخطر الحرب , و قال له : هذا المكان هو الأكثر أمنا في ألمانيا , وعليك أن تحتفظ بهم فيه و ترعاهم وحسب ,غير أن هتلر تعرض لأنتقادات و اعتراضات القيادات النازية المدنية و العسكرية الذين هاجوا أمام هذا التصرف من هتلر و أخبروه أنهم في أمسّ الحاجة لهؤلاء المهندسين و لا يستطيعون الإستغناء عنهم في الوقت الذي يخوضون فيه معارك مصيرية مع العدو , ولكن هتلر أصرّ على قراره و قال لهم : إن الوقائع تشير الى احتمال خسارتنا للحرب , وأن ألمانيا تحتاج إلى هؤلاء أكثر من حاجتنا لهم , فهم الذين سيعمرّونها بعد الحرب , ويعيدون ألمانيا كما كانت , و ذلك هو ما تحقق فعلا , فبعد أن انتهت الحرب بخسارة ألمانيا إستعان المستشار الألماني ديناور الذي جاء بعد هتلر بأولئك المهندسين الذين أعادوا إعمار ألمانيا و أصبحت ألمانيا خلال عشرين عاما من أقوى دول العالم إقتصاديا , و عادت إلى وضعها الذي كانت فيه قبل الحرب بل أحسن منه , وهكذا نستنتج ان ستالين و هتلر اللذان صورهما ألأعلام الفربي من أسوأ الطغاة , اتضح أنهم كانوا يحبّون وطنهم و يفكرون فيه طيلة الوقت.
تعني الشيطنة الدعاية السلبية المكثفة , وضخ كم هائل من المعلومات السلبية والمغلوطة عن أشخاص وكيانات , هذا المصطلح موجود ومستخدم قبل ظهور وسائل التواصل الاجتماعي , وحينها الإعلام التقليدي كان يلعب دورًا مختلفًا في هذه العملية , فشيطنة المختلف , وتشويه صورته , تعد من أهم أدوات الكارهين لغيرهم , ويعدونها ضرورة من ضروريات تعبئة الناس على بعضهم البعض , وإضعاف معنويات المختلف سواء كان الاختلاف في الفروع أو حتى في الثوابت , ويقف خلف هذه الشيطنة وهذا التشويه وذاك التهجم أطراف عديدة , تحركهم دوافع ومصالح وأهداف فكرية , ويعملون ليل نهار على شيطنة الآخر, وربما تجريمه , ﺇﻥ (( ﺍﻟﺸﻴﻄﻨﺔ )) ﻫﻲ ﺃﺧﻄﺮ ﺍﻷﺳﻠﺤﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﺨﺪﻣﻬﺎ ﺃﻋﺪﺍﺀ ﺃﻣّﺘﻨﺎ ﻓﻲ ﺣﺮﺑﻬﻢ ﻋﻠﻴﻨﺎ , ﺷﻴﻄﻨﺔ ﺍﻟﻤﻨﺎﺿﻠﻴﻦ ﻭﺍﻟﺸﻬﺪﺍﺀ , ﺷﻴﻄﻨﺔ ﺍﻟﺮﻣﻮﺯ ﻭﺍﻟﻘﺎﺩﺓ , ﺷﻴﻄﻨﺔ ﺍﻟﺤﺮﻛﺎﺕ ﻭﺍﻟﺠﻤﺎﻋﺎﺕ , ﺷﻴﻄﻨﺔ ﺍﻟﺸﻌﻮﺏ ﻭﺍﻷﻣﻢ , ﻷﻥ ﻫﺬﻩ (( ﺍﻟﺸﻴﻄﻨﺔ )) ﺗﻘﻴﻢ ﻣﺘﺎﺭﻳﺲ ﺍﻟﻌﺪﺍﺀ ﻭﺍﻟﻜﺮﺍﻫﻴﺔ ﺑﻴﻦ ﺃﺑﻨﺎﺀ ﺍﻷﻣّﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ , ﻭﺍﻟﺸﻌﺐ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪ , ﻭﺍﻟﻘﻀﻴﺔ ﺍﻟﻮﺍﺣﺪﺓ , ﻭﺗﺼﺮﻑ ﺃﻧﻈﺎﺭﻧﺎ ﻋﻦ ﺃﻋﺪﺍﺋﻨﺎ ﻭﻫﻢ ﺃﺧﻄﺮ ﺍﻟﺸﻴﺎﻃﻴﻦ ﺍﻟﺘﻲ ﺗﻬﺪﺩ ﺣﻴﺎﺗﻨﺎ , ﻭﺃﺧﻄﺮ ﻣﺎ ﻓﻲ ﺳﻼﺡ (( ﺍﻟﺸﻴﻄﻨﺔ )) ﺃﻧﻬﻢ ﻳﻨﺠﺤﻮﻥ ﻓﻲ ﺍﺳﺘﺨﺪﺍﻣﻨﺎ ﺿﺪ ﺑﻌﻀﻨﺎ ﺍﻟﺒﻌﺾ , ﻓﻴﺴﺘﺪﺭﺟﻮﻥ ﺑﻌﻀﻨﺎ ﺇﻟﻰ ﺷﻴﻄﻨﺔ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺍﻵﺧﺮ, ﺣﺘﻰ ﺇﺫﺍ ﻣﺎ ﻓﺮﻏﻮﺍ ﻣﻦ ﺷﻴﻄﻨﺔ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﻋﻤﺪﻭﺍ ﺇﻟﻰ ﺷﻴﻄﻨﺔ ﺍﻟﺒﻌﺾ ﺍﻵﺧﺮ ﻣﻤﻦ ﻭﻗﻊ ﻓﺮﻳﺴﺔ ﺧﺪﺍﻋﻬﻢ , ﻭﻫﻜﺬﺍ ﺗﺘﻮﺍﺻﻞ ﺍﻟﺤﺮﻭﺏ ﺑﻴﻨﻨﺎ ﺣﺘﻰ ﻳﺼﺒﺢ ﺃﻋﺪﺍﺅﻧﺎ ﺃﺳﻴﺎﺩﺍً ﻋﻠﻴﻨﺎ .
تبًّا للطغاة الذيول , لا هم ينفعون كطغاة عظماء , ولا هم ينفعون كوطنيين حقيقيين , فأن آخر ما يفكر به السياسيين والحكام العرب أوطانهم , هَمّهُم الوحيد كيف يسرقون قوت شعوبهم , ومستقبل أولادهم و يستنزفون مقدّرات بلدانهم لأسيادهم خارج الحدود .