22 نوفمبر، 2024 6:25 م
Search
Close this search box.

مقامة الشجن

تصبحت اليوم بنص قديم لصاحبنا المندلاوي الجميل , اعاد نشره بعد عقد من الزمان , حينها كان يتخطى اعوامه السبعين , وينطوي النص على معاناة مواطن ومأساة وطن ,

ولما كانت هموم الوطن مشتركة تحسسنا بشجن الأيام , فقد اسميت مقامتي الشجن .

 

يُقال أن إبن الخليل بن أحمد الفراهيدي , ذات يوم راح ينادي في الطرقات (جُنَّ أبي) عندما وجده يتحدث مع نفسه وبصوت مسموع , وهو يحاول إكتشاف نغمات وإيقاعات الشعر , وتأسيس منظومته العروضية الخالدة , الا انه يبدو ان الكثيرين منا يصرخون بأعلى أصواتهم ( جُنّ وطني) , فما يجري في الواقع ضرب من الجنون المرعب , الذي يستعصي على الشفاء , فما يدور في البلاد لم يخطر على بال العباد , لا في حاضرهم ولا ماضيهم , الدين مجهول , المذاهب في الكراسي , وغاب صوت (حي على خير العمل ) وصارت ( حي على شر المآسي ) , وتُنسب إلى الوزير ابن العُلقُمي قصيدة,  قالها متألما على أحوال بغداد والخلافة :(( كيف يُرجى الصلاحُ من أمرِ قومٍ ضيعوا الحزم فيه أي ضياع \ فمُطاع المقالِ غيرُ سديدٍ  وسديدُ المقال غيرُ مُطاع)) .

 

أصل الحكاية في بلد الشظايا , أن الوطن تحوّل إلى ضمير مستتر تقديره مجهول , فانتشرت الأفاعي والعقارب والعظايا , وتمرّغت في ترابه وإلتهمت ثرواته , وتخندقت في كينونات تحميها من الوطن , الذي يريد أن يكون وعاءً جامعا وميدانَ تفاعل وإنطلاق لتأمين مصالح مواطنيه , وكلنا يعرف ان الأوطان أوعية ما فيها , فإذا تحطم الوعاء الوطني تناثر ما يحويه , وتناحر وتنافر وتمترس بأتراسٍ يلوذ بها متوهما بأنها ستحميه , وإذا تمزقت الخيمة فلن يجد ما تحتها مَن يقيه , ولو بحثنا عن الوطن في الواقع المتحامل على الإنسان , فهل سنجد منطقا وطنيا أو راية وطنية؟

أوطان الدنيا فيها عشرات ومئات التنوعات المجتمعية , لكنها مسبوكة بإرادة الوطن وعزته وكرامته وسيادته , فالوطن يجمع , وما دونه يفرِّق , اذن فالسر في تكوين الأوطان لتأمين القوة والقدرة على البقاء العزيز , الذي تتكاتف فيه مكونات الوطن المجتمعية بأطيافها المتنوعة للذود عن وجوده , والمجتمعات التي لا تعز أوطانها بالعمل الجاد المجتهد , تفقد قيمتها وتنهار قدراتها , وتصبح فرائس سهلة للمتوثبين للفوز بوليمة دسمة منها ,والسائد في مجتمعات أضاعت أوطانها , أن الكينونات المتصاغرة تطفوا على السطح , وتنشغل بتفاعلات إستنزافية لبعضها , حتى تتمكن منها قِوى ذات أطماعٍ ونوايا كامنة.

هاهي أغنية قد هزمتك , حيث ( كلبي نسيت هناك ) , كما علق احدهم على النص , ذكرني

عند بداية التحاقي بعملي في روما عام 1983 , كنت حينها خاطبا مع وقف التنفيذ , ولطالما حاولتُ منذ قدومي أن أتجاهل كلّ ما يؤلم قلبي من ذكريات , وخطيبتي هناك , وأغانٍ وحتى طعام , قلتُ: سوف أركّز في المكان الجديد وأتعلم لغته وأخترع ذاكرة جديدة لأماكن وأغانِ جديدة إسوة بكثيرين سبقوني , بيد أنني لم أفلح , وكلما عاتبني أحدهم على إفراطي في الحنين أجبته : لقد غدا عمري ثلاث و ثلاثون , يشبه الأمر اقتلاع شجرة زيتون معمرة وغرسها في مكان جديد , ثمة أشجار لا تستطيع مدّ جذورها في تراب جديد, وأخرى تتأقلم لكنها لا تكون بالإنتاجية نفسها, وأنا لا أعرف حينها, أي شجرة أنا , وأنا هنا , لأجرّب فترة حياة جديدة , وقد  حدث بعد وصولي بشهر, وأنا ذاهب صباحاً إلى موعد هام , استقليت القطار وفي المحطة التي اعتدتُ فيها تبديل القطار والذهاب إلى موعدي انبعث صوت فيروز عالياً (( بدّك لحبيبك تقطفي قمر.. رح يوصل حبيبك بكرا من السفر.. وجيرانك يحكوا معو…كيف الصبايا تجمعوا…لما كنت بالشجرة… وصرت تغني يا قمرة )) , ومثل من يمشي في نومه تبعتُ الصوت, كان الصوت يجرّني خلفه إلى أن وصلت إلى كشك صغير, رأيتُ شابّاً ذا شعر أسود كثيف يشبه غابة, سألته : هل أنت عربي؟ أجابني : فلسطيني , وقفت في مكاني مثل المشدوه, لا أعرف ماذا أقول, أغمضتُ عينيّ وسرحت في أقاصي الذاكرة.

 

تقتضي المقتضياتُ هنا الإشارة وبالخط العريض أن لا  الخلخلة  تعني زوال الخلل , ولا  الحلحلة  تعني الدنوّ من لمسٍ مباشرٍ لحافّات الحلّ , فعندما يصاب قلب إنسان ما بفراق , تصبح مشاعره مضطربة وتتحول من اليأس إلى العجز إلى القلق , وحين كنا نقرأ عبارة الراحل نجيب محفوظ  التي يقول فيها : (( إننا نستنشق الفساد مع الهواء فكيف تأمل أن يخرج من المستنقع أمل حقيقي لنا؟ )) , حتى وجدنا ضالتنا في الفساد الذي يُطبق على أنفاسنا في الهواء الذي نتنفسه , ويحتار العراقيون في ترتيب الحلول لأزماتهم التي لاتنتهي , وكأنهم يعيشون زمناً رديئاً يخبرهم بحقيقة مفادها إن خروجهم من هذه الحفرة سيوقعهم في حفرة أعمق , وكأنها لعنة تطاردهم حتى في الهواء الذي يستنشقونه ,((وللأوطان في دم كل حرٍ…يد سلفت ودين مستحق )) .

وأختم مع سعدي يوسف :

((يا جارُ , آمنتُ بالنجمِ الغريبِ الدارْ

يا جارُ , نادتْ ليالي العُمرِ : أنت الدارْ

يا ما ارتحلْنا وظلَّ القلبُ صوبَ الدارْ

يا جارُ لا تبتعدْ … دربي على بغداد))  .

 

أحدث المقالات