يحذر أستاذ الدراسات الأميركية في جامعة كورنيل غلين ألتشولر من أن الوضع الجديد المتمثل في الخطاب المبتذل والعنيف الموجه ضد المعارضين السياسيين , يهدد بطمس المكونات الأساسية للديمقراطية مثل الكياسة والتعاون والتسويات السياسية والثقة في نزاهة المسؤولين العموميين وسيادة القانون والمعارضة المخلصة , وقد قال الفيلسوف الألماني شوبنهاور (( البذاءة تنتصر على أي جدل وتحجب أي دور للعقل )) , والبذاءة ليست غريبة عن عالم السياسية والسلطة , يستخدمها الموالون والمعارضون , الساسة وأتباعهم , وهي سلاح لفظي كما يعتبرها البعض , وفنّ كما يراها الهابطون , فيما تبقى في إطار قلة الأدب والعجز بالنسبة إلى كثيرين , و(( أفضل علاج ضد الشتائم هو احتقارها)) كما قال الكاتب والروائي الاسباني ماتيو أليمان .
نهى الشرع عن إيذاء الناس وتوجيه الكلام القبيح بقصد إهانتهم أو انتقاصهم , وجعل ذلك من الفسوق , فقد قال رسول الله : (( سباب المسلم فسوق وقتاله كفر )) , ويقول الله في سورة ألأحزاب : (( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا )) , وهكذا يفترض ان تعتبرالشتيمة السياسية في فلك الممنوع , حيث نذكر قول النبي : (( ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ ولا اللَّعَّانِ ولا الفاحشِ ولا البذيءِ )) , و قول الشاعرالعباسي الخبزارزي (( إذا قلتَ قولاً كنتَ رهن جوابه فحاذر جواب السوء إن كنتَ تعقلُ (( , و)) إذا جنايات الجوارح عُدِّدت فَأَشَدُّها يَجنِي عليك لسانُ )) , كما نسب للأمام الرضا قوله : (( السباب يوجب الانحطاط , و مَا اسْتَسَبَ اثْنَانِ إِلَّا انْحَطَّ الْأَعْلَى إِلَى مَرْتَبَةِ الْأَسْفَلِ )) .
قرأت نقدا يقول (( كم اعترف بكونك جليلاً في التحقيق والسرد والنقل الأمين , لكن عبارة واحدة تجعلك تحت طائلة النقد , وأحيانا الشك في العلمية , ليست مشكلة أن لا تحب أحزاب كانت في السلطة (( الحزب الشيوعي أوحزب البعث أو الأحزاب القومية )) , ولك ان تذكر مساوئ عهودها بما تشاء , لكن أن تصفهم (( بالمجرم والنذل …الخ )) يخرجك عن رزانة المثقف والمحقق والمؤرخ , فهذه العبارات ضد الخصم يمكن أن تقال في مقهى أو بين اصدقاء , لكن لا يجوز أن تكون في مواقع رصينه , وتصدر عن أحد فحول المثقفين , كما يجب ألا يخرج أحد عن القصد , فقصدنا ليست هذه ألأحزاب إنما استخدام مفردة غير لائقة , سوى كانت ضدها أو سواها من كتاب يفترض ان نسميهم محترمين لهم وزنهم و بحوثهم المزعزمة , واذا اردت ان تهاجم خصمك محاولا تسقيطه فلا تستعمل كلمات او اوصافا سوقية ومبتذلة كالطعن بالشرف مثلا , لان ذلك يفقدك المصداقية ويرفع من شأن خصمك , وتذكر ان الكلام صفة المتكلم , فاستعمل لغة رفيعة وحجة دامغة في هجومك لكي لا ينقلب الهجوم ضدك )) .
انها دعوة للأرتقاء بالعقول فليس من الضروري أن نلجأ للتجريح والقذف ظنا منا أننا بهذا نثبت للآخر ذاتنا وقوة شخصيتنا , ولم يكن الاختلاف أبدا ليفسد في الود قضية , و لم لا نتأسى بالأمام علي ؟ (( حين خَرَجَ حُجْرُ بْنُ عَدِيٍّ وَعَمْرُو بْنُ الْحَمِقِ يُظْهِرَانِ الْبَرَاءَةَ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمَا أَنْ كُفَّا عَمَّا يَبْلُغُنِي عَنْكُمَا , ولما قَالَا : فَلِمَ مَنَعْتَنَا مِنْ شَتْمِهِمْ ؟ .قَالَ : كَرِهْتُ لَكُمْ أَنْ تَكُونُوا : لَعَّانِينَ , شَتَّامِينَ تَشْتِمُونَ , وَتَتَبْرَءُونَ , وَلَكِنْ لَوْ وَصَفْتُمْ مَسَاوِئَ أَعْمَالِهِمْ فَقُلْتُمْ مِنْ سِيرَتِهِمْ كَذَا وَكَذَا , وَمِنْ أَعْمَالِهِمْ كَذَا وَكَذَا , كَانَ أَصْوَبَ فِي الْقَوْلِ وَأَبْلَغَ فِي الْعُذْرِ , وَ لَوْ قُلْتُمْ مَكَانَ لَعْنِكُمْ إِيَّاهُمْ , وَبَرَاءَتِكُمْ مِنْهُمْ : اللَّهُمَّ احْقُنْ دِمَاءَهُمْ , وَدِمَاءَنَا , وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِهِمْ وَبَيْنِنَا , وَاهْدِهِمْ مِنْ ضَلَالَتِهِمْ , حَتَّى يَعْرِفَ الْحَقَّ مِنْهُمْ مَنْ جَهِلَهُ , وَيَرْعَوِيَ عَنِ الْغَيِّ وَالْعُدْوَانِ مِنْهُمْ مَنْ لَجَّ بِهِ , لَكَانَ أَحَبَّ إِلَيَّ , وَخَيْراً لَكُمْ , فَقَالَا : يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ نَقْبَلُ عِظَتَكَ وَنَتَأَدَّبُ بِأَدَبِك )) .
انتشرت ظاهرة السب والشتم بشكل واسع في الآونة الأخيرة , فأصبحت مرتعا لذوي النفوس الضعيفة ووعاء لتفريغ عقدهم وضغوطاتهم النفسية غير آبهين بما سيترتب عن ذلك من أذى نفسي لمن يقصدونه بكلامهم , فترى لماذا أصبح هذا الكم الهائل من الحقد والكره العلني يطغى على التعليقات والمنشورات العمومية ؟ لمًا نتابع تصريحات عدد من السياسيين والمسؤولين الحزبيين , وما ينشرونه عبر مواقع التواصل الاجتماعي , نقف على حجم هائل من السب والشتم في كلامهم ضد سياسيين آخرين , وأحيانا يجري ذلك بتعابير خارجة عن المعتاد في الخطب السياسية , وتكون مليئة بالقذف والتجريح , لعل كل هذا التدهور اللفظي وذاك راجع إلى الحرية المطلقة التي تحس بها هذه الفئة وهم وراء شاشاتهم بلا رقيب أو حسيب , وأيضا اعتقادهم بأن العالم الافتراضي يمتعهم بحرية تعبير غير مشروطة , فيمنحون أنفسهم الحق بقول كل ما يحلو لهم دون التزام وأدب أو تقدير لشعور من يوجهون له الكلام.
كان المتنبي ماكينةً بشرية لإبداع الحكمة , فإنه لا يكف عن إطلاق تُحَفِه الشعرية حتى وسطَ موجات السباب , زمن شعره :
(( وكم من لئيم وَدّ أنِّي شَتَمْتُهُ ,,, وإن كان شتمي فيه صابٌ وعَلْقَمُ
وَلَلكَفُّ عن شَتْم اللئيم تكرُّماً ,,, أَضَرُّ لهُ من شَتْمـــه حين يُشْتَمُ )) .