23 نوفمبر، 2024 4:59 ص
Search
Close this search box.

مقامة السلح

يشرح القاموس معنى سَلَحَ : سلَحَ يَسلَح , سَلْحًا , وسُلاحًا , فهو سالِح , و سَلَحَ الحَيَوانُ : تَغَوَّطَ , رَاثَ , وسلَحَ فلانٌ : مشى بطنُه , ولكن شرح حسان بن ثابت أخطر هذه الشروحات حيث كاد يودي بقطع لسان الحطيئة , وهكذا ف(السلح) مصطلح نقدي قديم , هجره النقاد أخيرا , إلا أن تاريخنا الأدبي يذكر هذه اللفظة كأقذع وصف للهجاء يمكن أن يتلقاه إنسان , وهناك من (ينسلح) هذه الأيام بقذارة لا تبتعد كثيرا عن الفعل القذر نفسه .

ورد في قصيدة للحُطَـيئة هجا فيها الزِّبْرِقان بن بدر أحد وجهاء بني تميم وفرسانها وسادتها , وهو من الصحابة المخضرمين , والبيت هو: (( دعِ المكارمَ لا ترحلْ لبُغيتها واقعدْ فإنك أنت الطاعمُ الكاسي )) ,أما سبب الهجاء فله حكاية طويلة ملخصها أن الزبرقان أساء جواره , فلجأ إلى بغيض بن عامر خصمه , فمالأه عليه , وطلب منه هجاءه , ولما استعدى الزِّبرِقان الخليفةّ عمر بن الخطاب على الشاعر, وذكر له البيت , قال عمر: ما أسمع هجاء , ولكنها معاتبة , (وفي رواية أخرى : أما ترضى أن تكون طاعمًا كاسيًا ؟ وفي رواية ثالثة : ولكنه مدحك ) , قال الزبرقان: أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟ قال عمر: عليّ بحسان بن ثابت , فجيء به ليحكم , فقال: (( لم يهجُه ولكن سلح عليه )) , (أي تغوّط , كناية عن شدة الهجاء( , ويقال إنه سأل لبيدًا كذلك , فقال : ((ما يسرني أنه لحقني من هذا الشعر ما لحقه وأن لي حُمُر النّـعم )) ,  فأمر به عمر فجعل في حفرة (السجن في تلك الأيام ) ,  وقال عمر: يا خبيث لأشغلنّك عن أعراض المسلمين , ثم كان أن استشفع الشاعر الخليفةَ في قصيدته الرائيّة المؤثرة :

((ماذا أقول لأفــــراخ ٍ بذي مرخ ٍ … زغبِ الحواصل لا ماءٌ ولا شجرُ
ألقيتَ كاســـيَهم في قعر مظلمةٍ … فاغفر عليك ســـــــلامُ الله يا عمرُ
أنتَ الإمامُ الذي من بعد صاحبهِ … ألقى إليكَ مقاليدَ النـــهى البشــرُ)) , فأطلقه , ويقال ان عمرو بن العاص شفع فيه فأخرجه وأخذ عليه العهد أن لا يهجو الناس واستتابه , واشترى الخليفة أعراض الناس , واشترط عليه ألا يهجو الهجاء المقذع.

يقول الحطيئة بدءًا: لا ترحل للمكارم التي لا تملكها , ففاقد الشيء لا يعطيه , فنحن نرحل لطلب شيء غير حاصل بين أيدينا , فلو كانت عنده المكارم لما لزم الرحيل إليها , و(اقعد) شأنه شأن (دع) فعل بحد ذاته أمر يراد به التحقير, فأنت المطعوم المكسوّ, وهنا جاء اسم الفاعل بمعنى اسم المفعول , وهو من المجاز العقلي , وهذه الصيغة واردة في كلام العرب , ففي قوله تعالى ( فهو في عيشة راضية ) , يعني بها مرْضِية , و ( خُلق من ماء دافق ) يعني بها اسم المفعول ,  ( ولا عاصمَ اليوم ) , بمعنى المعصوم , ونعرف ذلك من خلال صحة استعمال الفعل المبني للمجهول: (عيش , عُصمَ ) , ويمكن أن تكون السخرية والهجاء من باب النسب , فالعرب تقول (تامر) صاحب تمر , و (لابن) …إلخ

إذن فالمعنى الذي قصده الحطيئة أنك تُنسب إلى الطعام والكساء , ومن هنا نفهم جواب الزبرقان : (( أو ما تبلغ مروءتي إلا أن آكل وألبس؟ )) .

وللحطيئة لسان مبدع لكنه لم يستفد منه الا في الهجاء , ولهذا يعد واحد من كبار الشعراء الهجائين حتى انه هجا أباه وأمه , قال يهجو أباه كمثال على سوء أدبه : (( فنعم الشيخ انت لدى المخازي وبئس الشيخ انت لدى الفعال )) , ونال اذاه عمه وخاله وزوجته حتى وصل لنفسه , فقال يهجوها : (( ارى وجها شوه الله خلقته فقبح من وجه وقبح حامله )) , ومن أكبر زلاته هجاءه للصحابي الزبرقان كما تقدم , وقد أصبح هذا البيت بشهادة شاعر كبير مثل حسان بن ثابت من أقوى أبيات الهجاء عند العرب حتى أتى أبو الطيب المتنبي , الذي لم يصنف انه من كبار شعراء الهجاء , ويصف رجلا قام بالاساءة اليه , فجاء المتنبي ببيت احسبه الابلغ في الهجاء: (( صغرت عن المديح فقلت أهجو كأنك ما صغرت عن الهجاء )) , فالمتنبي هنا لم يسلح على الرجل فحسب بل الغاه من الوجود وحرمه حتى من الاهانة , فأي رجل هذا الذي هو أصغر من الهجاء؟ انه سؤال مستحق في أيام ابي الطيب المتنبي , ولو ان شاعر العرب الكبير عاش بيننا اليوم لما اتعب نفسه بابداع ذاك البيت , فمن هم أصغر من الهجاء اليوم كثيرون , وكثيرون جدا.

ويذكر ان عمر قال للحطيئة : فإن عفونا عنك , أتهجو بعدها أحداً ؟ قال : لا يا أمير المؤمنين , وعلي بذلك عهد الله , فقال عمر : لكأني بفتىً من قريش قد نصب لك نمرقة , فاتكأت عليها , وأقبلت تنشده في أعراض المسلمين , قال: أعوذ بالله يا أمير المؤمنين ,
وقد أورد بعض الرواة : (( فوالله لقد رأيته عند عبيد الله بن زياد على الحال التي ذكر عمر, فقلت له: لكأن أمير المؤمنين عمر كان حاضراً لك اليوم , فتأوه , وقال: رحم الله ذلك المرء، فما أصدق فراسته)) .

وفي شعر الهجاء ورد في قصيدة الأعشى : (( تَبِيتونَ في المَشْتَى مِلاءً بُطونُكُمْ وجاراتكمْ غَرْثَى يَبِتْنَ خَمَائِصَا .. يُرَاقِبْنَ مِنْ جوعٍ خِلالَ مَخَافَةٍ نُجُومَ السّمَاءِ الطَّالِعَاتِ الشَّوَاخِصَا .. أَتُوعِدُنِي أَنْ جاشَ بحرُ ابنِ عمِّكمْ وَبَحرُكَ ساجٍ لا يُوَارِي الدَّعَامِصَا ؟  فَلَوْ كُنتُمُ نَخْلاً لكُنْتُمْ جُرَامَةً وَلَوْ كُنْتُمُ نَبْلاً لكُنتُمْ مَعَاقِصَا )) , ومن قصيدة الشافعي : (( تموت الأسد في الغابات جوعا ولحم الضأن تأكله الكلاب .. وعبد قد ينام على حرير وذو نسب مفارشه التراب )) ,

و من قصيدة مسلم بن الوليد  (( قبحت مناظرهم فحين خبرتهم حسنت مناظرهم لقبح المخبر)) , ولأبي الأسود الدؤلي : (( فَطِنٌ لِكُلِّ مُصِيبَةٍ فِي مَالِهِ وَإِذَا أُصِيبَ بِعِرْضِهِ لَمْ يَشْعُرِ)) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات