صحافة ومعلقي التواصل لجماعة الدبابة البريميرية عندما يتهكمون على أقوال وكتابات الوطنيين , يهزأون بهم , ويصفوهم قائلين : (( من جماعة الزمن الجميل )) , وعندما حدثوا احد ابواقهم عن المصالحة وضربوا مثلا بجنوب افريقيا , رد غاضبا , )) لسنا مانديلا , ولا نرغب ان نكون مثله )) , هذا البوق الأسود تم منحه شهادة عليا من كليات ألأنفتاح , ومنحوه مقعد ألأستاذية في جامعة كانت رصينة .
قبل الغزو , كان العراق دولة ذات نظام شمولي مركزي تحت حكم حزب واحد , تميزت بالعديد من الجوانب , فعلى الرغم من القبضة المشددة , كان هناك نوع من الاستقرار الأمني , حيث كانت الدولة تسيطر بشكل كامل على الأوضاع الداخلية , وكان الاقتصاد العراقي يعتمد بشكل كبير على النفط , ورغم أنه كان يُعد من أفضل الاقتصادات في العالم العربي في الثمانينات , إلا أنه تأثر بشكل كبير بالحصار الاقتصادي الذي فرضته الأمم المتحدة بعد عام 1990, وأدى إلى تدهور كبير في البنية التحتية , وارتفاع معدلات الفقر والبطالة , ونقص في الخدمات الأساسية , وكانت الحياة السياسية تحت سيطرة الحزب الحاكم , لا وجود للتعددية الحزبية أو الديمقراطية, كانت القرارات تُتخذ بشكل فردي من قبل القيادة العليا , وكانت المشاركة الشعبية أو المعارضة المنظمة تتم من داخل الحزب الحاكم , وكان هناك تركيز على الهوية الوطنية الموحدة التي فرضها النظام , وغياب للنزعات الطائفية أو العرقية , وبقي قطاعي التعليم والصحة يعملان رغم تأثرهما بالحصار.
أما بعد الغزو, فقد شهد العراق تحولات عميقة وكبيرة , كانت مدمرة , فقد دخل العراق في دوامة من الفوضى الأمنية والعنف الطائفي والإرهاب , مما أدى إلى موجات من النزوح والدمار وفقدان الأرواح , ورغم تراجع حدة العنف في فترات معينة , إلا أن التحديات الأمنية ما تزال قائمة , وقد أدت المحاصصة الطائفية إلى تفشي الفساد والمحسوبية , وأضعفت مؤسسات الدولة , وأثرت سلبًا على تقديم الخدمات للمواطنين , وأستمرغياب التوافق الوطني والصراع على السلطة والموارد بين الكتل السياسية المختلفة , مما أدى إلى عدم الاستقرار السياسي وتأخر تشكيل الحكومات في كثير من الأحيان , وساهم انتشار الميليشيات المسلحة خارج سيطرة الدولة في تدهور سيادة الدولة وتقويض سلطتها , وعلى الرغم من الارتفاع الكبير في أسعار النفط بعد الغزو, إلا أن العراق لم يستفد بشكل كامل من هذه الثروة , بسبب الفساد المستشري , وتدمير البنية التحتية , وتراجع القطاعات الأخرى (الصناعة والزراعة) مما جعل الاقتصاد هشًا ويعاني من بطالة مرتفعة وفقر واسع النطاق , وأصبحت البلاد تعتمد بشكل شبه كلي على واردات الغذاء والسلع الأساسية.
تظهر أعراض الحنين إلى الماضي في مجتمعاتنا كثيراً وخصوصاً في هذه الفترة , وأزعم أنه من الصعب أن تجد من يدّعي أنه لم يقع في فخها يوماً من الأيام , ولطالما سمعنا دائماً جملاً على نحو : كانت الحياة زمان غير , وكان الجمال غير, وكان الفن غير, إلى آخره من هذه الجمل الرومانسية الحالمة , ومن اللافت للنظر كيف يستخدم البعض عبارة (( جماعة الزمن الجميل )) للتهكم والسخرية من أقوال وكتابات الوطنيين , أو أولئك الذين يحملون رؤى مختلفة , تصبح هذه العبارة أداةً للتقليل من شأن الأفكار التي لا تتوافق مع الخطاب السائد , وكأن الارتباط بالماضي أو الحنين إليه يعد ضعفًا أو عدم قدرة على مواكبة الحاضر, وفي السياق ذاته , نجد ردود فعل غاضبة تجاه بعض المقارنات التي تهدف إلى حل الأزمات , فعندما تُطرح المصالحة على غرار تجربة جنوب أفريقيا , يأتي الرفض القاطع مصحوبًا بعبارات مثل: (( لسنا مانديلا ولا نرغب أن نكون مثله )) , هنا , يصبح نيلسون مانديلا , رمزا للنضال والمصالحة , وهذا الرفض العنيف يعكس مقاومةً لأي نموذج ملتزم حتى لو كان يحمل في طياته دروسًا مهمةً للخروج من الأزمات.
دائمًا ما يبرز مصطلح (( الزمن الجميل )) في أحاديثنا ومقالاتنا , يكتنفه سحر خاص يشدّنا إلى الماضي بجماله المُتخيَّل , تتجلى أعراض هذا الحنين في مجتمعاتنا بشكلٍ لافتٍ , خصوصًا في هذه الفترة التي نعيشها , أزعم أنه من الصعب أن تجد من يدّعي أنه لم يقع في فخ هذا الحنين يومًا , لطالما سمعنا عبارات مثل : (( كانت الحياة زمان غير )) , و ((كان الجمال غير )) , و(( كان الفن غير)) , وغيرها من الجمل الرومانسية الحالمة التي ترسم لوحةً ورديةً لأيامٍ مضت , لكن , هل هذا الزمن الجميل مجرد وهم يلوذ به البعض للهروب من مرارة الواقع ؟ أم أنه يعكس حقيقة أيام كانت أفضل ؟
تتزايد أعراض متلازمة الحنين هذه بشكل اضطرادي مع ازدياد سوء الأوضاع التي تعيشها دولنا اليوم , إذ نرى حنيناً مبالغاً فيه للماضي , ومحاولةً حثيثةً لتصويره بشكل رومانسي حالم , حتى من قِبل كتاب ومفكرين مشاهير , كما أننا نرى كثيراً من طبقات مجتمعاتنا تقدس الفعل الماضي (( كان )) كثيراً ولكنها تتناسى في الوقت ذاته أنه فعل ناقص منتهٍ , لن يُفيد سوى الإتيان بخبرٍ تمّ وانقضى , هو لا يقدم حلولًا للمستقبل , ولا يمنحنا قوةً لتغيير الحاضر , و قديما قالت الحكمة (( ليس الفتى من يقول كان أبي , بل الفتى من يقول ها أنا ذا )) , وهي مقولة حملت وصفة لنظرية الزمن الجميل , ووضعت التوازن المطلوب للتعامل مع الزمن , فلا تفريط في الماضي ولا إفراط فيه , لأن رسالة الفرد والشعب هي تحقيق القيمة المضافة للمجموعة وللإنسانية , وإلا كان عبئا على عالم لا يقبل المتفرجين في مسرح الحياة .
مع كل ما تقدم فأن جيلنا كان أكثر أنتاجا من أالاجيال اللاحقة , حيث أن خيرة المثقفين والادباء والكتاب والعلماء ينتمون الى جيلنا , جيل الزمن الجميل , أما الجيل الحالي , فأظنه (( جيل بعبع )) الذي حدثتنا عنه جدتي رحمها الله في غابر الايام وقالت عنه :(( جيل بعبع , ياكل ما يشبع , ادزه مايرجع )) , أتذكرعندما كنا نخرج في نهاية الدوام لم يكن بائع السكائر أو المخدرات يفترش بوابة المدرسة , ولا أذكرأنني أشتريت ملزمة لأي مادة , ولم يخصص أهلي أي مبلغ للمدرسين الخصوصيين لان أساتذتنا كانوا أكفاء في اختصاصاتهم , ولم نكن نواجه أي مشاكل أو ضغوط نفسية تستلزم مراجعتنا للمرشد التربوي , بل لم يكن لدينا في المدرسة مرشد تربوي أصلا , ومع أننا كنا نغيب عن البيت طوال اليوم , لم يقلق أحد من أهلنا علينا ولم ينتابه شعور أننا ضعنا أو أن عصابة قد أختطفتنا , بل كان شيئا أعتياديا لاننا لا بد أن نكون مجتمعين في أحد بيوت المحلة , ذلك هو معنى الزمن الجميل الذين يتهموننا به .
الزمن الجميل قد يكون فعلاً موجودًا في ذاكرتنا الجماعية , لكنه ماضٍ مضى , علينا أن ندرك أن لكل زمن تحدياته وجمالياته , وأن المبالغة في تمجيد الماضي قد تمنعنا من رؤية جمال الحاضر وفرص المستقبل , فماضينا هو جزء من هويتنا , لكنه لا يجب أن يكون كل مستقبلنا , وإن الاعتماد الكلي على (( الزمن الجميل )) كمرجعية دائمة , قد يعيقنا عن مواجهة تحديات اليوم , فإذا كنا نعيش في سحر الماضي , فقد نفقد القدرة على العمل بفاعلية لخلق مستقبل أفضل , والزمن يتغير , والمجتمعات تتطور, والحنين وحده لا يبني أوطانًا ولا يحل مشكلات , ربما يكمن الحل في إيجاد توازن بين الاعتراف بقيمة الماضي الذي دمره الغزو , واستلهام دروسه , وبين مواجهة تحديات الحاضر وبناء المستقبل , يمكن للحنين أن يكون مصدر إلهام , يدفعنا للحفاظ على القيم الجميلة التي كانت سائدة , أو يذكرنا بما فقدناه ونسعى لاستعادته , لكنه لا يجب أن يصبح قيدًا يمنعنا من التقدم أو سببًا للسخرية من أي محاولة للتغيير.