كتب الدكتور محمود الجاف نصا جميلا بعنوان رفوف القلب وقيود المشاعر , تحلى النص بالواقعية المبنية على الأدراك , ونصح بأعادة ترتيب اسبقيات القلوب وتقييد المشاعر الا لمن يستحقها , اذ ان الدُنيا كُل يوم هي في شأن .
من قوانين الحياة , كل الذين يحبون المواسم تغدو قلوبهم فارغه عند تغير الفصول , وكل الذين يمنحون الثقة بسهولة يعانون من انكسارات الخيبة التي تصدم القلوب , وكل القلوب المكسورة التي تعبت من المسير , وذاب حنينها , أصبحت أرضا بورا بلا حياة , فكيف نعيد ترتيب الرفوف , وهناك مواجيد تخبو في قلوب عاشقة , لا تأبه لعساكر الخريف , وكلما توجهت رصاصة لما في الصدر بدقة تامة , تمر لحسن الحظ من ثقب قديم في القلب , و كيف لأشياء قد تبدو بسيطة وعابرة لمانحها , لكنها تظل كوشم محفور في قلب من تلقاها, صحيح إن العيون ترى كل يوم وجوهاً جميلة , ولكن القلب لا يفتح أبوابه إلا لوجه واحد , ولاسيما ان الحياة قد علمتنا درسها بأن النور له الكشف , البصيرة لها الحكم , والقلب له الإقبال والإدبار.
عندما درسونا فن الخلاصة وجهونا : ((كن مقتضباً قدر ما تستطيع , وكن مباشراً قدر ما يمكن, وكن بسيطاً مثلما يجب )) , ولهذا وجدنا انه من الصعب ان نتخلى عن التماهي مع حلم لمستقبل مائز ومتميز عن الحاضر رغم بلوغنا السبعين , طبعا هي مرحلة تندرج في باب المتغيرات العمرية , ولكن تبقى الثوابت التي تتأطر في المبادئ والقيم , والتي تزداد نضجا لتحمينا من الوقوع في وهْـم المغالطات والانفعالات المتطرفة , وقد أوصانا مولانا جلال الدين الرومي : (( لا تنطفئ , ربما كنت لأحدهم سراجاً وأنت لا تشعر)) .
يقول مكسيم غوركي : (( كل شيئ يحترق بالحرارة ويصبح رماداً, إلا المشاعر فإنها تحترق بالبرودة حتى تختفي نهائياً دون أثر)) , ولنتذكر دائما في الأختيار , أن القلب أبصر من العين , والعقل أبصر من كليهما , فيا قلب لا تقنع بشوك اليأس من بين الزهور , فوراء أوجاع الحياة عذوبة الأمل الجسور , لأن كل تعويذات النوم والدعاء والقرآن وورق الغار تحت الوسادة لم تجلب النوم , مادامت الطيوف تدور في المخيلة , ولأنه مابين أشتياق وأشتياق أننا مشتاقون .
علمتنا الحياة : (( إياكم والمقاعد الأمامية في قلوب الآخرين , لأنها ستكون الأكثر تضررا بحوادث فقدان الثقة وسوء الظن , كونوا على الحياد, لاوصال دائم , ولا فراق موجع , وستنعموا بدفء القلوب )) , ترى كم أرطب القلب بحب فتي طردته وساوس الفكر السديد؟ آه ياهديل الحمام وقعك جميل وهمك ثقيل , يبعثُ الشوقَ بعد طول رُقاد , ما أنبلها قطعة السكر , أعطت الشاي ما لديها ثم إختفت , اليس الأحرى بنا ان نكون كقطعة السكر؟ حتى وإن إختفت تركت أثراً جميلاً فالبصمة الجميلة تبقى حتى وإن غاب صاحبها .
يقول الأبيوردي :
(( تَنَكَّرَ لِي دَهْرِي وَلَمْ يَدْرِ أَنَّنِي …صَبورٌ وَأَهْوالُ الزَّمانِ يَهُونُ
فَباتَ يُرِينِي الضَّيْرَ كَيْفَ اعْتَدَاؤُه… وَبِتُّ أُرِيْهِ الصَّبْرَ كَيْفَ يَكُون)) ,
هلْ تنْبتُ لِلْيقينِ جذورٌ ؟ ذاكَ مأْزقُ السّؤالِ , ولِأنَّ الْوجودَ والْغيابَ توْأمانِ فأنَا حينَ أجِدُنِي لَا أجِدُنِي , والتّفْكيرُ فخٌّ ينْصبُ شِباكَهُ لِيصْطادَ الْفرائسَ منْ غابةِ الذّاكرةِ , والذّاكِرةُ لَاتخونُ فمَنْ يُفكّكُ شفْرتَهَا ؟ هيَ تحْتفظُ بِالسّرِّ حتَّى تذوبَ خلايَاهَا وتُطْمرَ فِي التّرابِ , فهلْ نسْقِيهَا دمْعاً لِتُزْهرَ الحقيقةُ ؟ تلْكَ أسْئلةُ الْمجْهولِ , وذلك هو القهر, نفر من الألم , فتحتضننا الأشواك , وعثرات الطرق كثيرة .
كثيرون لا يستوعبون نصيحة الدكتور القيمة , فهذه ميسون أسعد قد كتبت : (( للّيل ما أعطى , و للنّهار ما أخذ ولي نزف الطريق و رشفة الحلم)) , وعندما كتب الأديب العقاد إلى مي زيادة , و لم ترد عليه , لم ييأس ولم يغير اسبقياته , فبعث إليها برسالة أخرى يقول فيها : (( أرجو أن يكونَ ذلك عن عمد, فالعقابُ عندي أهونُ من الإهمال )) , وبعد انفصال غادة السمان عن غسان كنفاني , و في تساؤلات ما بعد الفراق التي لم نجد لها جوابا لليوم , كتبت له :(( كيف أتخلص من عادة انتظارك؟ كيف أقنع قلبي بأنك لم تعد تنتظرني ؟ و بأني آخر الأشياء بعد أن كنتُ أولها ؟)).
في هذا الصباح الخريفي البطيء ,يبدو أنه لاوقت للملام , اذ يخرج الحمام منتفضا من الشقوق , ليرسم أجمل الرقصات على الأسطح المقابلة , وعرائش الياسمين تمتد لتعانق أشجار الرمان , وتنسجم الحمرة بالبياض , وتبقى الشمس متكاسلة في النهوض , وكلما أفلتت الغيمات منها سحبتها إليها من جديد , وكلما مرت ريح , تقذفني بوردة تختفي هناك عند قرنفلة الفجر , وكأنني قلقا ومازلت , آخر قشة حرفٍ حاذق , ونثيث دمع , فماذا نفعل للشغف غير المعلن