أن الدفاع عن النفس بواسطة الكلام يكون أفضل بكثير من الدفاع عن النفس من خلال الضرب والمشاجرات , ويكون الرد القوي المهذب اقوى تأثيرا في الطرف الآخر , ما يجعله يستحي ويعرف مقدار نفسه , حينما يتصرف لغرض الاستهزاء , فحينما سُئلت الكاتبة الانكليزية أجاثا كريستي عن السبب الذي من أجله تزوجت واحدا من رجال الآثار ردت قائلة : لأني كلما كبرت زدت قيمة عنده , وقد أحرج رجلٌ امرأةً سمينة حينما ركبت الباص , فقال متهكما: لم اعلم ان هذه السيارة مخصصة للفيلة , فردت الامرأة قائلة : لا يا سيدي هذه السيارة كسفينة نوح تركبها الفيلة و(الحمير) ايضا , ولا ننسى ان ما يزيد جمالية الخطاب وسرعة الرد هو اخلاق المتحدث , فليس محبباً ان يعمد الانسان الى نفي قيم الآخرين , وتشويه صورهم .
لا بد ان يبتعد العاقل عن إحراج الناس من أجل اسكاتهم واعجازهم , والا كثرت المشادات وازدادت المشاحنات , ما يؤدي الى التباغض والتدابر بين الناس , كما ان العرب استعملوا فن الرد بما يعدُ دفاعا عن النفس , وذلك حينما يتعرض المرء الى موقفٍ استفزازيٍ , فلا يرى سبيلا سوى اسكات الخصم بكلام بليغ موجز يكون اشد تأثيرا على نفس الآخر من الضرب والأذى الجسدي , وكما حصل مع المتنبي حينما اراد احدهم الاستهزاء به والتقليل من شأنه حينما لقيه فقال له : ((لما رأيتكَ من بعيد ظننتك امرأة )) , فرد عليه المتنبي بكلام اقوى وأشد معنىً : ((وانا لما رأيتك من بعيد ظننتك رجلا )) , فاسكتَ الرجل واوقعه فيما اراد ان يوقع به المتنبي , وقد تناول احد الرجال وجبة عند احد الأُمراء وكان يأكل بشراهة فقال له الأميرُ: (( ما لكَ تأكل الخروفَ كأن أُمه نطحتك؟)) , فرد الرجل قائلا : (( وما لكَ تُشفق عليه كأن أُمه ارضعتك؟ )).
تعد الفصاحة وسرعة البديهة من الأركانِ المهمة للثقافة العربية , فقد كانت العرب قديما تُثني على الرجل لفصاحة لسانه وسرعة بديهته , حيث إنه بهذه الامور يصبح ذا قدرة فائقة على التركيز والتفكير العميق , كما انه يستطيع عن طريق هذه المَلكة تجاوز اي موقفٍ صعبٍ ومحرجٍ , كما ان براعة اللسانِ وحكمته تُخلص المرء من امورٍ كثيرةٍ لا يرغب بها , كالنقاش الحاد الذي لا يود الإكمال فيه , او الحديث الذي لا يرى منه طائلا , وقد استعمل العرب قديما هذه الموهبة في مناظراتهم التي كانوا يقيمونها عندما يتحدى اثنانٍ فيبرز ويشتهر صاحب الرد الأقوى ليُصْمِت الطرف الآخر ويعجزه , وقد يحدث لغرض التهكم والمزاح على سبيل الظرافة والطرفة , كما حصل بين احمد شوقي وحافظ ابراهيم في احد مجالس السمر, حينما احبا ان يتبارزا في الشعر, فقال حافظ : (( يقولون إنّ الشوقَ نارٌ وحرقةٌ …فما بال شوقي أصبح بارداً)) , فرد عليه شوقي بتوقد ذهنٍ وبديهة قائلاً :
(( استودعتُ إنساناً وكلباً أمانةً …فضيعها الإنسان والكلبُ حافظ )) , فكان شوقي أقوى وأبلغ رداً من صاحبه.
تعجبني قصص سرعة البديهة , وتعرف البديهة في اللغة على أنّها السّداد في الرّأي عند المفاجأة , والإنسان صاحب البديهة هو الذي يفهم ما يُقال له من المرة الأولى , وسرعة البديهة هي سرعة الشّخص في التّفكير والإدراك , وعموماً هي صفة اشتهر بها العرب وتاريخنا حافل بنوادرها اخترت منها : (( وقف أعرابي معوج الفم أمام أحد الولاة فألقى عليه قصيدة في الثناء عليه التماساً لمكافأة , ولكن الوالي لم يعطه شيئاً وسأله : ما بال فمك معوجاً ؟ فرد الشاعر: لعله عقوبة من الله لكثرة الثناء بالباطل على بعض الناس )) , وحين رمى الخليفة العباسي المتوكل عصفوراً فلم يصبه , قال وزيره : أحسنت , فرد الخليفة : أتهزأ بي؟ قال الوزير: لقد أحسنت إلى العصفور حينما تركت له فرصة للحياة .
من فنون الرد وسرعة البديهة : عندما التقى الجاحظ بامرأة قبيحة في أحد حوانيت بغداد قال : (( وإذا الوحوش حُشرت )) , فنظرت إليه المرأة وقالت : (( وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه )) , وحين أقبل جُحا على قرية فنادى عليه أحد أفرادها قائلاً : (( لم أعرفك يا جحا إلا بحمارك )) , فقال له جحا : (( الحمير تعرف بعضها )) , و رأى رجل امرأة فقال لها : كم أنت جميلة , فقالت لهُ : ليتكَ جميل لأُبادلكَ نفس الكلام , فقال لها الرجل : لا بأس اكذبي كما كذبتُ , وقال كاتب مغرور لبرناردشو : أنا أفضل منك فإنك تكتب بحثا عن المال وأنا اكتب بحثا عن الشرف , فقال له برناردشو على الفور : صدقت , كل منا يبحث عما ينقصه , قال رجل لامرأة : لماذا خلقت النساء في غاية في الجمال وفي غاية الغباء؟
فقالت المراة: في غاية الجمال من أجل أن تحبوهن , وفي غاية الغباء من أجل أن يحبوكم .