ليس من حقي ان احكم على الأغاني السائدة لدى جيل هذه الأيام , ولكني سمعت اغنية رائجة لحسام الرسام من كلمات الشاعر الغنائي عدنان هادي , تقول كلماتها المنطلقة وسط ضجيج موسيقي صاخب , تصاحبه راقصة ناشطة (( غطيته بايدي من برد , وبحضني ظل نايم رغد , من شبع نوم من الصبح , ويا اللي يكرهوني كعد )) , لترد الراقصة بصرخة عالية : لاطمة صدرها المكشوف ((آنه شلون والدفان يغمزلي )) , وليصيح بين القفلين بالراقصة بكلمات ممطوطة (( هزيهه هزيهه )) , فيصعد سكور المشاهدات وتزداد شعبية المغني , ولأترحم على أيام موسيقى وغناء زمننا الراقي .
ان سماع الأغاني والموسيقى هي طبع وفطرة في الإنسان السليم , ولها الأثر الفعّال في تنشيط النفوس وتربية الذوق وتعلية الغرائز وسموّ الأخلاق , وليس ينكر أحد ما للموسيقى والغناء من أثر في كثير من نواحي الحياة الاجتماعيّة أيضًا , فإنّ فعلها في الجماعات في إثارة الهمم وبعث النشاط الذاتيّ لا يقلّ عن فعلها في الفرد و لقد مضى على الموسيقى العربيّة حين من الدهر بعد بدوّها في الحجاز , وتقدّمها في العصر الأمويّ , كانت العامل الموجّه في الحياة العربيّة , و تتجسد العاطفة في أسلوب موسيقي صوتي وآلي يسمى الطرب, يستحضر هذا التقليد الموسيقي العربي من الشرق الأدنى حالة عاطفية متزايدة من السحر والنشوة لدى جميع المشاركين , وذلك غالبًا من خلال التفاعل المباشر
هناك كلمات غير قابلة للترجمة حتى في لغتها الأصلية , ومنها كلمة (( طرب )) , ربما لأنها تصف شيئًا يتجاوز حدود اللغة , شيئًا لا يمكنك إلا الشعور به , وعلى الرغم من صعوبة تفسير ظروف كلمة ((طرب )) , إلا أنها تحركنا جميعًا بطريقة لا تحتاج إلى أن تكون مفهومة تمامًا , وتكمن في طبيعتها الغامضة قدسية مريحة , أو تجربة مشتركة مقدسة تقريبًا تربطنا جميعًا ,فهل تأثرت يومًا بأداء موسيقي بطريقة لا تستطيع تفسيرها تمامًا ؟ فما لم أتوقعه هو مدى تأثري بالأداء بأكمله, و شعوري بالسحر , بحيث يبدو لي أن انفجارًا من الطاقة يخترق الموسيقى والأضواء الصفراء الضبابية , ويغمر الحشد تمامًا , ليشعرني بقشعريرة طوال الأمر, لأعرف أن كل من في المسرح شعر بما كنت أشعر به , ولأتفهم من ذلك المصطلح العربي الذي يصف هذا الشعور بالطرب , وهو يتعلق بالقدرة على التأثر العميق والتأثر العاطفي بالموسيقى والغناء , ويبدو الطرب مقصودًا , فالهدف بالنسبة للفنانين هو خلق ارتباط عاطفي مكثف مع الجمهور, ولهذا السبب غالبًا ما يتم تجربته في بيئة جماعية حيث يمكن للناس أن يجتمعوا ويختبروه على الهواء مباشرة , لا يقتصر الطرب على المشاعر المبهجة أو السعيدة فحسب , بل يمكنه أيضًا إثارة الحزن أو الشوق المرير , وقد توصف أهمية الطرب بأنه (( داعمًا للحياة )) في وقت الأزمات.
من حقنا ان نتسائل : لماذا أصبح الإيقاع الغربي السريع هو السائد في الموسيقى والغناء العربي الحديث ؟ لماذا أصبحت الأغاني الحديثة نسخة ممسوخة من الأغاني الغربية ؟ لماذا فقد الطرب العربي حلاوته شعرا ولحنا وغناء وتحول إلى فن هجين ؟ وما الفرق بين الأغاني القديمة والأغاني الحديثة ؟ الفارق الأكبر هو أن الموسيقى الشعبية منذ بداية الموسيقى وحتى منتصف التسعينيات كانت تُصنع باستخدام آلات موسيقية حقيقية , والموسيقى الشعبية منذ ذلك الحين فصاعدًا تُصنع بواسطة الكمبيوتر, وهو أمر لا يتطلب سوى القليل من الموهبة مقارنة بتلقي دروس العزف على الجيتار أو دروس الغناء , لقد طفت على السطح في الاونة الأخيرة موجة الغناء ذات الإيقاعات السريعة كالموجة الغربية التي كانت سائدة في الستينيات والسبعينيات , وأصبح لهذه الموجة جمهور واسع من الشباب الذي ابتعد عن الأغاني الأصيلة , ومن المعروف أن الأغنية هي نتاج تفكير وإبداع خاص بصاحبها , وفي الوقت الذي امتازت فيه الأغنية القديمة بالأصالة والتعبير عن أحاسيس الإنسان ومشاعره , عبرت الأغنية الحديثة التي تعبر أيضا عن الأحاسيس والمشاعر ولكن بطريقة مغايرة تماما عما أنتج قديما , فلمن يسمع الشباب ؟ هل مازال يمجد القديم أم أنه يمجد الحديث ؟ هل تعتبر الأغنية محددا رئيسيا لذوق الشخص وميوله ؟ وكيف يقارن الشباب بين الأغنية القديمة والأغنية الحديثة من وجهة نظرهم ؟.
إن الأغنية القديمة جاءت متقنة في الكلمات واللحن والصوت ومن الظلم ان نقارن الاغنية القديمة بالحديثة , أنا لا اسمع الأغنية الحديثة أبدا ولا انسجم معها نهائيا , لأنها باختصار غير جاذبة وتثير الفوضى في نفسي وفي أخلاقي , والمفروض أن تأتي الأغنية لترتقي بأذواق البشر وتعزز صفتي الإنسانية والتسامح اللتين هما سمتان رئيسيتان لاستمرار العلاقات البشرية , والأغاني القديمة (( متعوب عليها )) , واستطاعت ان تصل إلى الجماهير بسرعة نظرا لجماليتها من حيث الغناء والألحان والمضمون , ونادرا ما تجد ان الأغاني القديمة غير مسموعة , فالجميع يستمع إليها لأنها تثير المشاعر لدى المستمع , ولأن كلماتها تجذب انتباهه , وتحتوي على كلمات والحان يستطيع الكبير والصغير (الذكر والأنثى) أن يستمع إليها , والعكس صحيح بالنسبة لمعظم الأغاني الحديثة.
كان نيتشه يقول : (( الحياة ستكون غلطة لولا وجود الموسيقى )) , والغناء حشيشتُنَا الْمُنْتقاةُ , رسائلنا الى مستوطني القلوب , سيّارةُ إسْعافٍ تُنْقذُنَا منَ السّكْتةِ الدّماغيّةِ وحسرة المستحيل , عصير القلوْبٍ التي تحبُّ الْحياةَ , الا ولّيْتُ وجْهِي صوْبَ الغناء لِأموتَ شعْراً , التراث الغنائي لأي مجتمع يعكس ذائقته , ومزاجه , وقيمه , ويوثّق لذاكرة أجيال أنتجت وتربت على هذا اللون من وسائل التعبير الإنساني , ويقال في هذا المجال : (( أخبرني ماذا تسمع ؟ أعرف من أنت )) , فالإنسان يبدأ بسماع مناغاة أمه من قبل أن يبصر النور, ومن ثم على هَدْهدَتها حتى يغفو في مهده , ومن ثم يشّب على ما يلتقطه سمعه في البيت وعبر المذياع والتلفزيون , فضلاً على ما يعلق بأذنه من ذوقيات الشارع , وهكذا تتربى
الذائقة السمعية شأنها شأن الذوقيات الأخرى , كالملبس والمأكل وغيرها من الذوقيات التي تُشكّل هوية الإنسان وسماته الأساسية .