شاهدت أمسية ثقافية بعنوان : ((دهاليز النفس تأملات في سلوك ألأنسان وأهدافه )) , وقد أغنى المحاضر والجمهور هذا العنوان الواسع , بشكل جعل الأمسية مثمرة معرفيا , وبحيث بدت كخلية عصف أفكار تشعبت وتنوعت نقاشاتها واستشهاداتها بالتجارب العملية وأقوال الفلاسفة والعلماء , والدهاليز جمع ﻛﻠﻤﺔ ﺩﻫﻠﻴﺰ و تعني ﺍﻟﻤﺴﻠﻚ ﺍﻟﻄﻮﻳﻞ ﺍﻟﻀﻴﻖ , وهذه الكلمة ليست عربيَّة أصلاً, بل هي فارسيَّة مُعَرَّبة كما في المختار, والمصباح , وجاء في المختار: (الدِّهْلِيز) بالكسر ما بين الباب والدَّار فارسيّ مُعَرَّب , وكذا في المصباح , والقول أبناء الدَّهاليز : اللُّقطاء , ودهاليز السِّياسة : منعطفاتها وأماكن لقاءاتها الخفيَّة , ودِهْليز الأذن : تجويف بيضيّ في الأذن الداخليَّة , وعندما ﻳﻘﺎﻝ ﺩﻫﺎﻟﻴﺰ ﺍﻟﺴﻴﺎﺳﺔ ﺃﻱ ﻣﻨﻌﻄﻔاﺗﻬا ومصاعبها , ﻭﻛﺬﻟﻚ ﺩﻫﺎﻟﻴﺰ ﺍﻟﺤﻴﺎﺓ ﺍﻟﺘﻲ ﻻ ﺗﻜﺎﺩ ﺗﺨﻠﻮ ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺼﺎﻋﺐ ﻭﺍﻟﻤﺸﺎﻛﻞ ﻭﻭﺟﺐ ﻣﺠﺎﺑﻬﺘﻬﺎ ﻭﺗﺨﻄﻴﻬﺎ ﻭﻻ ﻳﻜﻮﻥ ذﻟﻚ إﻻ ﺑﺎﻟﺘـﺴﻠﺢ ﺑﺎﻟﻌﺰﻳﻤﺔ ﻭﺍﻷﻣﻞ .
كلمة (( دهاليز)) في اللغة العربية تعني ممرات أو ممرات ضيقة , وغالباً ما تستخدم للإشارة إلى ممرات خفية أو غير واضحة , قد تشير أيضًا إلى مناطق معقدة أو ذات تعقيد إداري أو سياسي , ومن دهاليز السياسة العالمية ان الدول العظمى في العالم لديها من عناصر القوة المتعددة ما يجعلها قادرة على بناء محاور سياسية وتصفية مثيلاتها , مع القدرة في الآن ذاته على غض الطرف عن بعض الدول نكاية بدول أخرى أو بغرض ابتزازها باستمرار , هكذا جرى في الماضي ويجري في الحاضر , والنماذج كثيرة على طول التاريخ وعرض الجغرافيا , وان حديث الأوهام يتبخر أمام قوة الواقع , ولنا أن نتذكر أنه قبل عقدٍ ونصف العقد , كانت أحداث ما كان يُسمى (( الربيع العربي )) تملأ السمع والبصر , وكانت ضمن رؤية أوباما التي هدفت إلى إسقاط الجمهوريات العربية وتسليمها لجماعات الإسلام السياسي , وجالت هيلاري كلنتون في تظاهرات ساحة التحرير, وطبلت لذلك أقلامٌ وكتابٌ وقنوات.
تطرقت المناقشة لدهاليز كبار السن الخائفين من الموت القريب , تلك كانت خَاطِرَةُ سِنْدِيَانٍ سَاخِنِ الشَّيْخُوخَةِ , يَنْحَدِرُ مَعَ الوُعُولِ المُتَسَلِّقَةِ سُفُوحَ أَشْجَارِ الشَّهِيقِ , ونَسَمَاتٌ رَنْحَهَا الثَّمِلُ , تَجَشَّأَتْ شَبَقَ الغُلْمَةِ , لِنُقْطَةٍ بَارِدَةِ الأَرْدَانِ , أَنْفَاسُهَا تَبْرُقُ شَهْوَةً ,غَدِيرُ شَغَفٍ يَسْتَغِيثُ بِرِمَالِ الوَاحَةِ , تنهال الرؤى على الشيخ الراعي المنبطح جنب السنديانة : (( أَسْفَارُ السِّنْدِبَادِ تَجْدِلُ عَرَجَ المَسَافَةِ , بَاحَةٌ بَيْضَاءُ يَعْقُوبِيَّةُ الغُبَاشِ شَرِبَ الأُفُقُ إِكْسِيرَ الغُمَّةِ العَتْمَةِ ,تَسَرَّبَ لِتَهَدُّجِهِ مِلْحٌ شَاسِعُ السُّمْرَةِ , حَمَلَهُ هَدِيلُ فَاخِتَةٍ , نَشَّفَتْ أَهْدَابَ دَعَوَاتِهَا , فَقَدَ اتِّزَانَهُ المُسْتَجَابُ , يصيح بنغمة مقام اللوعة : أَحِبِّينِي ,لَيْسَ لِلأَمْسِ مَخْرَجٌ , عَدَمٌ ؟ لَيْسَ لِلْغَدِ مَدْخَلٌ , غَيْبٌ؟أَحِبِّينِي وَكَفَى )) .
وعلى التوازي مع حكماء الندوة يقول جوزيه ساراماغو : (( لا ينضج المرء بالنصائح , لاينضج بالمواعظ , لاينضج بتجارب الأخرين , ينضج المرء حين يقطع الفقدان جزءًا من قلبه , وينحني ظهره من خذلان أحبائه , وتتسيد التجاعيد ملامحه من قسوة التفكير , وتتهاوى طاقته ويصبح هش بجسد هزيل من الركض في الطرق الخاطئة , ينضج المرء حين تقتطفه الحياة من جذوره )) , ندرك ان الحركة ولود والسكون عا قر , وأهل مكة أدرى بشعابها , وأهل الصحراء عيونهم أكثر صفاء , فهم قوم يميّزون دوماً بين السراب والماء , واهل القرى قساة , وأحياناً قساة بغير قصد , ومفرداتهم قليلة , والويل لمن وضعت عليه كنية جارحة , فإنها سوف تعيش معه مثل جرح مفتوح , والأرواح حين تحب لا تملك حق الإختيار , للأسف , فكيف بالشاخص دوما في الذاكرة , ولو امطرت ذهبا بعدما ذهبا .
لحظةِ العصفِ الذّهني , تشتبكُ الجُمَلُ كالجُنودِ , كلُّ كلمةٍ تريدُ أن تقودَ ماأكتب , فأتناغم مع الدهاليز , يُحكى أن جلال الدين الرومي سُئل عن تعريفه للسُّم , فقال : (( هو كلُّ شيءٍ يزيد عن حاجتنا , قد يكون القوة , أو الثروة , أو الجوع , أو الطمع , أو الحب , أو الغرور, أو الطموح , أو الكراهية , أو الكسل , أو أيَّ شيءٍ آخر )) , فكيف ابتلائنا بمحللين سياسيين خبراء في الغضب الرباني والمخططات السريّة ؟ وشيخي الذي أنقلب على نفسه , بعدما كان مثل كثيرين من أهل جيله يسارياً في شبابه , أصبح منتقداً لليسار بعد سن الكهولة, و مثلما النخلةُ لا تُثمر إلا إذا عانقتِ الشمسَ , كذلك القلبُ لا يُورق إلا إذا مسّته خُضرةُ السلام وأكسجينُ الحبّ.
جميل عصف تنوع الدهاليز, وأنا لم أَكذبْ , لكنّني لم أقُلِ الحقيقةَ حينَ أخبرتُ الرِّيحَ أنّني غُرابٌ وأنَّ هذهِ الحَربَ الطَّاحنةَ فزَّاعة , وقد كتب ليوناردو دافنشي عبقري الفنون الكلاسيكية ذات مرة : )) الجسد الجميل يفنى , لكن العمل الفني الجميل لا يموت )) , والشمسُ لا تخطئ طريقَها , لكنها قد تتوارى خجلًا حين تكونُ شاهدةً على فصول من الإعتام الإنساني والتقزّم الروحي , فكيف يشرق النورُ فوق أمكنة يُخدشُ فيها الطُهرُ, وتنكسرُ أحلامُ الطفولة تحت معاول القُساة ؟ وكان بيكيت قد كتب : (( النور الساطع ليس ضروريا , شمعة صغيرة هي كل ما يحتاجه الإنسان ليعيش في غربة , إذا أحترقت بإخلاص )) .
من دهاليز التفلسف , (( يذهب رجل إلى الخياط من أجل سروال , لكن الخياط يطيل الابطاء والتسويف , مبررا ذلك بالقول بأن عليه أولا أن يعيد حياكة مقعد السروال , ثم مدعيا وجود خطأ في مكان آخر من اللباس , وفي النهاية وبعد مرور عدة أشهر من المماطلة , يفقد الزبون أعصابه وينفجر غاضبا : (( لقد صنع الله العالم في ستة أيام , وأنت لا تستطيع أن تخيط لي سروالا في ستة أشهر ؟)) , فيجيب الخياط بهدوء : (( ولكن يا سيدي , انظر الى العالم , ثم انظر الى السروال الذي أصنعه لك )) , هل يقصد ان خياطته للسروال أفضل من صنع العالم ؟ يالها من فلسفة .