22 ديسمبر، 2024 2:52 م

مقامة الحلو والمر

مقامة الحلو والمر

حياتنا حلو و مر , ولولا المر لما عرفنا طعم الحلو ,والسائد ان يكون الحلو حلواً , والمر مراً , لكنني تذوقت في رمضان عام 1991 مشروبا طيب المذاق متفرد النكهة اثناء سهرة في منزل السفير العراقي في الخرطوم ألأستاذ عبد الصمد الغريري , والحلو مر ليس تعبيرا مجازيا أو حديثا عن حلو الحياة ومرها , بل هو مشروب سوداني رمضاني بامتياز , لا يضاهيه مشروب آخر على مائدة الطعام الرمضانية , ويعرف هذا المشروب العريق أيضا (بالآبري) , فالشربة منه لا تظمئ الصائم طوال يومه , ويتكون من الذرة المزرعة وكميات من التوابل وبعض المواد الطبيعية , وينظر إليه السودانيون بوصفه جزءاً من موروثهم الثقافي .

ربما نتساءل عن الشيء الذي يكون حلواً بمرارته , ونتعجب من أنفسنا عندما نستمتع بمرارة الشيء حتى إننا نراه حلواً حتى لو خالف هذا الواقع والحقيقة , لم أجد أقوى من مثال القهوة لهذا المضمون , فرغم شدة مرارتها , إلا أننا نتلذذ بكل رشفة بها , ونستمتع بكل لحظة تجمعنا بهذا الفنجان , حتى إن العديد من الذكريات والأحاديث والمواقف ترتبط برشفة فنجان قهوة , ورائحتها التي تنعش كل شعور بنا , فتنوعت القوافي والابتكارات والإبداع لصنعها وشربها أيضاً.

ولحسّان بن ثابت الخزرجي الأنصاري الملقب بشاعر الرسول قصيدة قالها يوم السرارة قبل الإسلام , وفيه وقعت حرب ضروس بين قبيلتي المدينة : الأوس والخزرج , وكان النصر فيها للخزرج , وكانت رداً على شاعر الأوس قيس بن الحطيم بيت يقول فيه :

(( وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ * وَإِنِّي لَتَرَّاكٌ لِمَا لَمْ أُعَوَّدِ )) , وهو بيت فخر يعني إني في معظم حالاتي حُلوٌ , والحُلوُ: ضِدُّ المُرِّواستخدمت الكلمة للتعبير عن الجميل  المستطاب , والمرارة ضد الحلاوة , والمُرُّ نقيض الحلو , وعبارة (وَإِنِّي لَحُلْوٌ تَعْتَرِينِي مَرَارَةٌ ) تعني كما يبدو مني لطف المعشر إلا أني إذا اضطررت بدا مني صلف وجفاء , فكما أنفع فإني أضر إذا استفزني أحد وأخرجني عن طبيعتي.

كما أن خصم حسّان بن ثابت في تلك المعركة قَيْسُ بنُ الْخَطِيمِ الأَوْسِيُّ له بيت في المعنى ذاته , يقول فيه :  ((أمُرُّ عَلَى الْبَاغِي وَيَغْلُظُ جَانِبِي * وَذُو الْوُدِّ أَحْلَوْلِي لَهُ وَأَلِينُ )) , أي يريد أنه يصبح مُرَّاً على الباغي ويعامله بجفاء وشراسة , لكنه مع من يبادله الود والصفاء يحلو له , أي يتحول من المرارة إلى الحلاوة ليكون سائغاً لأهل الود , حيث يصرح قيس بمن يكون معه مُرَّ التصرف ومن يكون معه حلواً , فيما ألمح لهم حسان في قوله: ((وإني لتراك لما لم أُعَوَّدِ)) .

يقول كُثَيِّر بن عَبْدِ الرَّحْمنِ : ((هُوَ الْعَسَلُ الصَّافِي مِرَارًا وتَارَةً * هُوَ السَّمُّ مَذْرُوراً عَلَيْهِ الذَّرَارِحُ )) , والذرارح : جمع ذرذح , دابة تكبر الذبابة قليلاً , تشوبها ألوان حمرة وصفرة وسواد , تطير بجناحين , وسمها قاتل , وهناك بيت للمتنبي يقول فيه : (( كُلُّ مَا لَمْ يَكُنْ مِنَ الصَّعْبِ فِي الأَنْـ* ــفُسِ سَهْلٌ فِيهَا إِذَا هُو كَانَا )) , وحسب تفسير ابن جني  يَقُولُ : (( إنَّمَا يَصْعُبُ الأَمْرُ عَلَى النَّفْسِ قَبْلَ وُقُوعِهِ , فَإذَا وقَعَ سَهُلَ , وهَذَا نحو قَولِ الأَعْشَى : (( لا يصْعُبُ الأَمْرُ إلَّا رَيثَ يَرْكَبُهُ * وكُلُّ أَمْر سِوى الفَحْشَاءِ يَأْتَمِرُ)) , كما ان الرَّاعِي النُّمَيْرِي يقول : (( أمُرُّ وَأَحْلَوْلي وَتَعْلَمُ أُسْرَتِي * عَنَائِي إِذَا جمرٌ لِجَمْرٍ توَقَّدَا)) , أي إذا ادلهمت الخطوب , وأختم مع بيت لبيد بن ربيعة العامري : (( مُمْقِرٌ مُرٌّ عَلَى أَعْدَائِهِ * وعَلَى الأَدْنَينِ حُلْوٌ كَالعَسَلْ )) , والممقر: شديد المرارة.

والحلو والمر مصطلحان متداولان في الأسواق النفطية للتفريق بين النفط الحلو والمر,  فالحلو هو ما يُسمى بعض الأحيان بالخفيف بسبب نسبته المتدنية من مادة الكبريت ما دون 1 في المئة وارتفاع الكثافة النوعية مابين 43 و45 درجة , في حين أنّ النفط المر , الأعلى في مادة الكبريت وأحياناً يتجاوز 4 في المئة والكثافة النوعية عند31 درجة ,

والنفط الحلو أعلى سعراً لما يحتويه من نسبة ضئيلة من الكبريت ومحتواه من مواد كربوهيدراتية , وعلى نسب عالية من المشتقات النفطية الخفيفة مثل البنزين والنافثا والديزل , والتي تحقق عوائد مالية عالية للمصافي , بعكس النفط المر الذي يحتاج إلى المصافي المتقدمة عالية الكلفة لانتاج المشتقات النفطية عالية الجودة , وبعد استخلاص مادة الكبريت من النفط الخام عن طريق التكرير عند درجات عالية وتكسير وتفتيت الجزيئات للوصول إلى نسبة قليلة جداً تكون مقبولة للمستهلكين في الأسواق العالمية .

تقول كريستين باتشو الخبيرة في النوستالجيا (التوق الى الماضي) في مقال لها إن الحنين إلى الماضي حلو ومرّ بطبيعته , لأنه يذكرك بالتغيير من جهة , ومدى ثراء حياتك من جهة أخرى , وتضيف أنه أثناء الأوقات الصعبة يمكن لتذكر ماضينا والرجوع إليه أن يقوينا من خلال تذكيرنا بكيفية تجاوزنا للتحديات , أو الخسارة , أو الإصابة , أو الفشل , أو سوء الحظ في الماضي , وتابعت عندما نشعر بالحزن أو الإحباط , قد يكون من دواعي السرور أن نتذكر أننا ما زلنا الشخص الذي كان سعيدا وقويّا ومنتجا, وتوضح أهم شيء يجب تذكره أنه من المستحيل العودة بالزمن إلى الوراء وتغيير ماضيك , لكن من الممكن تغيير الطريقة التي تفكر بها بشأنه.

وقديما قالت العرب : (( لا تَكُنْ حُلْواً فتُؤكَل ولا مُرّاً فتُبْصَق  , أي : لا تكُنْ حُلْواً فَتُسْتَرَط ولا مُرّاً فتُعْقَى ,ومعنى تُعقى: تُلْفَظُ مِن المرارةِ , يُقالُ : قد أَعْقَى الشَّيءُ : إذا اشتدَّتْ مرارتُهُ , وقيل: معنى تُعقى: تُلفَظُ بالعُقْوَةِ , والعُقْوَةُ: ساحةُ الدارِ)) .