بين العقل والثرثرة علاقة عكسية , فكلما كان العقل صغيراً أصبحت الثرثرة كثيرة , وكلما كان العقل كبيراً أصبح الصمت أبلغ وأرقى , والاقتصاد في الكلام قوة , ولأبن عربي قول ورد فيه : (( كلما وسعت الرؤية ضاقت العبارة )) , اذ ان كثير المعرفة قليل الكلام , وكثير الكلام قليل المعرفة , والكلمات دون أفكار قلما ترتفع إلى فوق , ومن يتكلم بالكلمة ملكته , وإن لم يتكلم بها ملكها.
يقول الأمام الشافعي :
(( قالوا سكت وقد خوصمت قلت لهم ….. إن الجواب لباب الشر مفتاح
والصمت عن جاهل أو أحمق شرف ….. وفيه أيضا لصون العرض إصلاح
أما ترى الأسد تخشى وهي صامتة ….. والكلب يخشى لعمري وهو نباح)) , ان الكلام كالدواء قليله ينفع و كثيره قاتل , فمن أطال الحديث فيما لا ينبغي فقد عرض نفسه للملامة , وقلوب الحمقى في أفواههم بينما أفواه الحكماء في قلوبهم , حيث ان ضربة الكلمة أقوى من ضربة السيف , فمن تكلم بما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه.
اللسان ليس له عظام لكنه يقتل , فهو رصاص قاتل , وقد خلق للإنسان لساناً واحداً وأذنين , لكي يسمع أكثر مما يتكلم , ومن الخير أن تزل قدم الإنسان بدلاً من لسانه , فكثرة الكلام تضيع الهيبة , وتظهر المتحدث أقل عزماً , وحتى الكلام التافه سيبدو أكثر وقاراً إن كان مقتضبا ًوغير محدد ومفتوحاً على كل التفسيرات , وكلما كثر الكلام يزيد احتمال قول أشيائاً تافهة أو غبية
.
الصمت يجهد الآخرين لأن الاقتصاد في الكلام قوة , والتقليل من الكلام جَهْلٌ لمقاصدك , ويعطي الشخص جلالاً وهيبة , وربما يرهب الصمت من حولك ويخضعهم لك , والصمت وسيلة معرفية للحقيقة , ووسيلة علاجية يخلص الإنسان من القلق والتوتر في الحياة .
في عام ١٨٢٥ م اعتلى نيقولاس الأول عرش روسيا , واندلع تمرد يقوده الليبراليون يطالبون بتحديث روسيا لتلحق مؤسساتها المدنية والصناعية بباقي اوروبا , سحق نيقولاس التمرد المعروف (( بثورة الديسمبريين )) بوحشية , وحكم بالإعدام على احد قادة الليبراليين هو ( كوندراي ريلييف ) , وفي يوم الإعدام وقف ريلييف على خشبة الإعدام والحبل ملتف حول عنقه , وانفتحت خشبة الإعدام وتدلى ريلييف لكن لحظتها انقطع الحبل وأسقطه على الأرض , في ذلك الزمن كانت أحداث من هذا النوع تعني تدخل العناية الإلهية , وكانت العادة أن يتم العفو عن الشخص الذي نجا بهذه الطريقة , حين وقف ريلييف على قدميه مجروحاً ومتسخاً لكن واثقاً من نجاته قال في الجموع : (( أرأيتم أن روسيا لا تقدر أن تصنع شيئاً جيداً حتى الحبال )) , وصلت الرسالة بسرعة الى قصر الشتاء وأخبر القيصر بفشل عملية الشنق , فاغتاظ من هذه المفاجأة , ولكنه بدأ في توقيع العفو لكن فجأة توقف وسأل : (( هل قال ريلييف شيئاً بعد المعجزة التي حدثت؟ )) , فأجاب الرسول نعم : لقد قال إن روسيا لا يعرفون أن يصنعوا شيئاً حتى الحبال , حين سمع القيصر ذلك قال : ((عندئد علينا أن نثبت له عكس ما يقول )) , ومزّق العفو , وفي اليوم التالي أُعيد شنق ريلييف وفي هذه المرة لم ينقطع الحبل , ربّ كلمة تقول لصاحبها دعني .
قالت العرب ( لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك) , ومن كثر هذره كثر خطاؤه , كما يقال الملافظ سعد , أمثال شعبية متداولة تؤكد لنا أن الكلمة التي ينطقها الانسان إما أن تصون كرامة الإنسان , وتنشر قيم التسامح والود بالمجتمع , وإما تكون قنبلة موقوتة تدمر الأخضر واليابس , وتهدم سلامة المجتمعات بما تحمله من قسوة لاذعة ولما كان الحُمق يُعْدِي , فقد قرأنا ان الأحنف بن قيس أمير تميم والملقب بحليم العرب يقول : (( إني لأجالس الأحمق ساعة فأتبين ذلك في عقلي , ولعلك تبينته في عقلك يومًا من الدهر , أو أصابك ولم تتبينه , وما أكثر من يصيبهم الحمق ولا يتبينون )) , وقد حدث مع الأحنف بن قيس ان جاءه أعرابي فلطم الأحنف في وجهه , فقال له الأحنف : لم لطمتني ؟ فقال له: أعطاني بعض الناس مالا , وطلبوا مني أن ألطم سيد تميم على وجهه , فقال له الأحنف : لقد أخطأت , لست سيد تميم , وإنما سيدهم هو حارثة بن قدامة , وكان حارثة رجلا غضوبا , لا يسكت على ضيم , ولا يحلم على جاهل , فجاء الأعرابي فلطم حارثة , فاستل حارثة سيفه وضربه على يده فقطعها , وما أراد الأحنف إلا هذا , فليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي .