يعلق المندلاوي الجميل على ازدحام الصور في شعر الشاعرة عالية محمد علي فدعم قائلا (( ان ازدحام الصور في القصيدة يشي بقوة الخيال المبدع , حيث تزدحم الصور بدون تكلف كما تزدحم التشبيهات في الشعر الجاهلي وحتى يكاد التشبيه يركب الاخر كما قال المرحوم طه حسين )) , لقد تعلمنا ان للتشبيه روعة وجمال , وموقع حسن في البلاغة , وذلك لإخراجه الخفي إلى الجلي , وإدنائه البعيد من القريب , يزيد المعاني رفعة ووضوحًا , ويكسبها جمالًا وفضلًا , ويكسوها شرفًا ونُبلًا , فهو فن واسع النطاق , فسيح الخطو , ممتد الحواشي , متشعَّب الأطراف , متوعِّر المسلك , غامض المدرك , دقيق المجرى , غزير الجدوى , فكيف اذا ركب التشبيه التشبيه ؟
من أساليب البيان أنك إذا أردت إثبات صفة لموصوف مع التوضيح , أو وجه من المبالغة عمدت إلى شيء آخر, تكون هذه الصفة واضحة فيه , وعقدت بين الاثنين مماثلة , تجعلها وسيلة لتوضيح الصفة , أو المبالغة في إثباتها , لهذا كان التشبيه أوَّل طريقة تدل عليه الطبيعة لبيان المعنى , ولننظر الى معلقة الأعشى : (( غَرّاءُ فَرعاءُ مَصقولٌ عَوارِضُها تَمشي الهُوَينا كَما يَمشي الوَجي الوَحِلُ , أَأَن رَأَت رَجُلاً أَعشى أَضَرَّ بِهِ رَيبُ المَنونِ وَدَهرٌ مُفنِدٌ خَبِلُ )) , يبدأ الشاعر بالتغزل بالمحبوبة من فوق لتحت , غراء أي بيضاء البشرة , فرعاء أي طويلة الشعر , مصقول عوارضها وتعني اسنانها بيضاء , تمشي الهوينا اي على مهل او ببطء , وهذا يدل على العزة و الدلال و الهبر و الشحم , كما يمشي الوجي الوحل , اي تمشي كما تمشي الدابة على الوحل اي الطين وهي كناية عن البطء في المشي , وفي البيت اللاحق شبّه ريب المنون بإنسان يسبب الضرر لغيره , فحذف المشبّه به الإنسان وأبقى على شيء من لوازمه وهو الضر على سبيل الاستعارة المكنية , او (( اِذا تَقومُ يَضوعُ المِسكُ أَصوِرَةً وَالزَنبَقُ الوَردُ مِن أَردانِها شَمِلُ )) , يضوع المسك أصورةً شبّه الشّاعر رائحة محبوبته بالمسك , فحذف المشبّه وهو الرائحة الطّيبة , وصرّح بالمشبّه به وهو المسك على سبيل الاستعارة التصريحية .
دعونا ننظر في تجليات طرفة بن العبد في تصوير الناقة و الإبل المرتحلة كالسفن , فمنذ البدء تتجلى عظمة الناقة , حيث يستهل الشاعر المعلقة بذكر الأطلال , ويشبّهها بالنقش في ظاهر اليد , ثم يذكر إبل المالكية ويشبهها في كثرتها وفي ضخامتها وهي مرتحلة في الوادي , بمجموعة من سفن عدولية جبارة مصنوعة في جزيرة مجهولة , صنعها قوم غرباء أو هي من سفن ابن يامن , وهو ملّاح شهير, وهذه السفن تشق بصدرها عباب البحر , ويشبهها وهي تشق عباب البحر بحركة ولد يلعب بكومة التراب , وقد وضع في جانب منها قطعة حجر, ثم قسم الكومة بيده إلى نصفين, فيقول :
(( لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم يَقولونَ لا تَهلِك أَسىً وَتَجَلَّدِ
كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ
عَدَوليَّةٌ أَو مِن سَفينِ اِبنِ يامِنٍ يَجورُ بِها المَلّاحُ طَوراً وَيَهتَدي
يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيزومُها بِها كَما قَسَمَ التُربَ المُفايِلُ بِاليَدِ )) .
أود ان اشير الى مهارة المندلاوي الجميل على أستخراج اللؤلؤ من أعماق بحار شاعرتنا الفريدة الراقية وما اقدره على اقتناص الاثمن والاندر , (( دامت بصيرتُكَ أيها المبدع سوناراً تعري أحشاء الكلمات لتصل بمهارة الحكيم لرئة معانيها تستنشق أنفاسها لتطلقها للقارئ اوكسجيناً نقياً يبين براعتك العجيبة على تشخيص النقاء ومداه والعمق ومداه والقيمة ومداها في كلمات شاعرتنا المبدعة , وما أشبهك ببائع الانتيكات والأشياء الثمينة جداً والذي يعطي لمن يود أقتناء هذهِ الأشياء كل ما يتعلق بهذه البضاعة تاريخ ومواد صنعها وندرتها وقيمتها الحقيقية ودمت سالماً )) .
ولنقل في شاعرتنا ماتستحقه فهي : ((عندما تكتب ينبت القمح من يديها , ولديها القدرة أن تعجن الثماني وعشرين حرفا بحرفية إلهية , بل حتى ترسمها بإيقاعات الزمن , وفي كل
مرة تطل من نافذة جديدة على تضاريس سهول المعاني الخصبة وبألوان الكتابة , انها تتزود بالشمس لتجبرنا على إحتواء دفئها , وتخرج من زمن التصحر, وزمن الصخرة وتدخل في نسغ الحياة , عندما نقرأها تعطينا نبض الحقيقة والحياة , وتفرد جناحيها على طول الأفق كعنقاء خرجت من رحم المستحيل , وبطيرانها نكتشف اي ابجدية رسمت لتعيد لنا فرحنا المقموع في لحظاتنا التقليدية , انها تعرّي الجروح تمهيدا للشفاء , فاي أفق يتسع لأبجديتك يانخلة الرب وعالية المقام , وكيف نداري انفسنا من الغرق وأنهارك العظيمة فتقت , يامن تركبين التشبيه فوق التشبيه )) .
لا تعاب الصّورة الرّائعة لأنّ غير المبصرين لا يرونها , ولا تعاب الموسيقى الممتازة لأنّ الذين فقدوا السّمع لا يسمعونها , فكيف بالذين (يتعمّدون ألاّ ينظروا) و(يتعمّدون ألاّ يصغوا) , ويريدون أن يلقى جمال الفنّ في أذواقهم وقلوبهم إلقاء دون أن يتكلّفوا الاستمتاع به ؟