تُعَدُّ (( البروكرستيَّةُ )) من أخطرِ أمراضِ العقلِ الحديثِ , لأنها تسحقُ الفرديَّةَ باسمِ التماثلِ , وتُحاربُ التنوُّعَ تحتَ رايةِ التَّجانسِ القسريِّ , وقد قالوا انها القولبة الجبرية , والتطابق المتعسف , والانسجام المبيت , انه افتئات على الواقع قلما يفلت من غضبة المنطق وانتقام الحقيقة, ولذا فأن مصطلح البروكرستية يطرق مجالات واسعة من الحياة ليشمل أي محاولة لصب كل الاختلافات في قالب واحد ,وبروكرُست , شخصيةٌ أسطوريةٌ من الميثولوجيا اليونانية , عاشَ في غاباتِ أثينا كقاطعِ طريقٍ, مترصِّدًا للمارَّةِ في مكانٍ ناءٍ , وكانَ يعتقدُ أنَّهُ (( النموذجُ الأمثلُ للإنسانيَّةِ المتكاملة )) , وكانَ في منزلِهِ سريرٌ حديديٌّ يدعو ضيوفَهُ لقضاءِ الليلِ عليه , مظهرُهُ عاديٌّ لمن يجهلُهُ , لكنَّهُ في الواقعِ أداةٌ لرؤيتِهِ الجنونيَّةِ للإنسانِ المثاليِّ , فإذا كانَ الضيفُ أطولَ منَ السريرِ, عمدَ (( بروكرُست )) إلى بترِ جزءٍ من أطرافِهِ حتَّى يتساوى طولُهُ معَ السريرِ, وإن كانَ أقصرَ, شدَّهُ بعنفٍ حتَّى تتمزَّقَ مفاصلُهُ وتتفكَّكَ أطرافُهُ , كلُّ ذلكَ ليُجبرَ ضحيَّتَهُ على التوافقِ مع قياسِهِ المثاليِّ المُفتَرَضِ.
غيرَ أنَّ المثيرَ للسخريةِ أنَّ (( بروكرُست )) امتلكَ سريرينِ مختلفَيِ الطُّولِ , يختارُ منهما ما لا يُناسبُ الضيفَ عمدًا , ليضمنَ أنْ لا أحدَ ينجو من تعديلِهِ القسريِّ , ورغمَ بساطةِ هذهِ الأسطورةِ , فإنَّها خلَّفتْ مصطلحَ (( البروكرستيَّةِ )) , الذي يصفُ أولئكَ الذين يحاولونَ فرضَ مقاييسَ ثابتةٍ على البشرِ , غيرَ مكترثينَ باختلافاتِهِم الفكريَّةِ والعاطفيَّةِ والثقافيَّةِ , بل يسعونَ إلى تطويعِهِم قسرًا داخلَ قوالبَ صارمةٍ , دونَ اعتبارٍ لما يُناسبُهم من فكرٍ أو قانونٍ أو معتقدٍ.
تمتد البروكرستية الى جميع نواحي الحياة , وقد تكون أنت أو أنا قد مارسناها , أو وقعنا ضحيتها , لذلك في المرة المقبلة حين تحل أي فكرة ضيفا على عقلك , فحاول ان تعدل السرير لكي يلائم الضيف لا أن تقطع اوصال الضيف ليلائم سريرك , نعم قد نكون نحن مارسنا (البروكرستية) بشكل أو بآخر, بوعي أو بجهل , يحدث هذا عندما لا نقبل الاخر كما هو , بل نحاول حشره في صوره خلقناها لأنفسنا , ولاحظ عندما نحب من يشبهنا فإننا في الواقع نحب أنفسنا فقط , أما الآخرين فمجرد أطياف , والاختلافات مهما كانت صغيرة نحاول مطها أو بترها حتى تطابق سرير عقلنا الحديدي ,نحن حين نقتنع بأننا لسنا محور الكون وبأن هناك أناس ربما يختلفون معنا فكرياً , وان ما نراه اليوم صواباً ربما نغير قناعتنا به مستقبلاً , وبأن رأينا صواب يحتمل الخطأ ورأي غيرنا خطأ يحتمل الصواب , حينها نكون قد وضعنا أقدامنا على بداية الطريق الصحيح.
تذهب البروكرستية إلى مايسمى ب ((البروكرستية الاشتراكية )) , وهي محاولة لفرض التجانس على الناس وتفرض المساواة المطلقة على المواطنين بحيث تضع الجميع في قالب واحد من دون مراعاة حقيقة اختلافاتهم , اوتستخدمها الحكومات الماكرة فتوعز لاستخباراتها بان تفصل لها تقريرا يتناسب مع قرار سياسي مبيت لتكيف القرار وفقا للمعلومات , في حين كان أندريه جيد يعلل (( بان المساواة بين الناس ليست طبيعية , بل ليست شيئاً يُبتغى , فمن العدل أن يتفوق الأخيارعلى طغام الناس بما تُخولهم الفضيلة من امتياز, وهؤلاء الطغام إذا لم تُثر بينهم التنافس والتزاحم والغيرة ظلوا هامدين خامدين أشبه شيء بالماء الراكد )) , وعلى ذكر نظريات العدل والبروكرستية الاشتراكية تثار في عقولنا ابيات الأديب عباس محمود العقاد الذي يقول : ((انا نريد اذا ما الظلم حاق بنا عدل الاناسي لا عدل الموازين , عدل الموازين ظلمٌ حين تنصبه على المساواة بين الحر والدون , مافرقت كفة الميزان او عدلت بين الحلي واحجار الطواحين )) .
البروكرستية ليست سعيًا نحو المثالية , بل قمعٌ للتنوع باسم التماثل القسري , من يمارسها لا يبحث عن النظام , بل عن السيطرة , فيختار دومًا قالبًا يجعل الجميع ضحايا , الحرية ليست فوضى , لكنها ليست إجبارًا على التشابه , ومن يسجن الآخرين في (( سريره المثالي)) ينتهي أسيرًا له , وتنتهي الأسطورة عند هذا الحد , ولكن لا تنتهي المعاناة ,وقد تكون هي الطريقة الوحيدة النافعة لظرف أمتنا الراهن , لاسيما وأن الدين والتاريخ واللغة والأرض ووحدة المصائب لم تكن قادرة على توحيدها وإجتماع كلمتها , الا ان البعض يقول (( بأننا نحتاج لسرير (بروكرست) هذا كقالب بمقاس ثابت , يعدل ويحدث ويعيد قسرا تصميم الإنسان العربي الفوضوي لخلق جيل أو أمة أو حتى قطعان تسير على نسق متسق ونهج واحد وسبيل له هدف كباقي الشعوب والأمم , وقد تبدو الفكرة جنونية لكن مالعمل مع أمة غارقة في أوحال التخلف والجهل والخيال والأساطير والإقتتال العبثي لالشيء إلا لأنها تائهه وحائره ومشلولة وعمياء )) .
البروكرستيه ظاهرة اصيلة وثابته في بلادنا , وإن تلك الشخصية الأسطورية لم تمت إلا جسدًا , أما روحها فهي حاضرة وبقوة في جسد مجتمعاتنا العربية , وهي جوهر الدين السائد هنا , على مستوي النص , ولولا القانون لطبقها اتباعه علينا بحدة , في مجتمعاتنا نريد الأشخاص والأفكار والادب والفلسفة وحتى النظريات العلمية على مقاس سريرنا , والا مصيرها جميعا القتل والتشويه , أن مجتمعنا العربي يحمل سرير بروكرست معه في كل جلسة للحوار, ناسياً أنه كما لأقدامنا مقاسات , فإن لأفكارنا مقاسات , تأبي المط أو التشكيل أو القولبة , وإن بروكرست مازالت روحه سارية في مجتمعاتنا , تجد روحه في رجال السياسة وكذلك رجال الدين والإعلام , وتمتد روحه لتسكن المعلمين وأساتذة الجامعات , فإما أن تتطابق أحلام الآخرين وأفكارهم وبرامج حياتهم مع أحلام وأفكار وبرامج هؤلاء , وإما أن يتم إخضاعها وتكييفها بالقهر والقوة البروكرستية .