نعود الى رواية ( قمح داكن على المعصم ) للروائية السورية : نجاح ابراهيم , لنرى الشرق – عبر التاريخ القديم و الحديث – بيت للاحزان , والحزن تجربة مستمرة , يستقر في أعماق الروح , بينما يمر الفرح ضيفا ً طارئاً او استثناء لا يجد بيتا يستقر فيه , مما يجعلنا نحتاج الى محفز ـ ولو بسيط ـ الى استعادة الحزن بحرارة و بلذة عند الشرقيين , و هذا المحفز يسمى في علم النفس بالاقتران الشرطي ,الذي يتحقق في الاصوات , الالوان , الصور , اللغة .
تقول الراوية : (( جمدت في سريري لا أستطيع الحراك , و عيناي فقط كعيني جرذ تنظران في كل الاتجاهات )) , ذلك يحدث في ليلِ الجبالِ الصامتة , حيثتنمو الآهاتُ كأشجارِ التين ,يختبئُ خلفَ أوراقهاسرُّ الروحِ الخفي , وعندما تسقطُ ورقةٌتسمعُ الأرضُ صوتًالم يُسمع من قبل , هناك ,في قلبِ السكونِ الساكن ,تفتحُ السماءُ أبوابَ الحلمِ ,ويُكتبُ على أضلاعِ النجومِما لا يجرؤ أحدٌعلى كتابته في النهار, وفي النهاية , حين يغمر الليلُآخرَ أنفاسِ النهار ,تولدُ أغنياتٌلا تُكتب إلا في صمتِ الروح ,كلماتُها تذوبُ في الرياحِ ,تحملُ أسرارَ الذين مرّواولم يتركوا أثراً ,وتزرعُ في القلبِأجنحةً خفية , هي أغنياتُ الحالمين ,التي لا يعرفُها أحدٌ سواهم ,تلك التي تتنفسُ من عمقِ الليلِ ,تنمو وتذبل كالأقمارالتي لا تَعرِفُ الفجر , وكلُّ أغنيةٍ ,وإن صمتت ,تبقى شاهدةً على مسيرةِ أرواحٍلم تُخلقْ لتعيشَ في ضوءِ النهار,بل لتحيا في نورِ الأحلام .
يقول أحمد فؤاد نجم : (( أحبك محشش مفرفش مطنش و دايخ مدروخ و آخر إنسطال , أحبك مكبر دماغك مخدر ممشي أمورك كده بإتكال , وأحب اللي ينصب و أحب اللي يكذب وأحب اللي ينهب و يسرق تلال , وأحب اللي شايف وعارف تمامه وبالع لسانه و كاتم مقال , وأحب اللي راضي وأحب اللي فاضي وأحب اللي عايز يربي العيال , وأحب اللي يائس و أحب اللي بائس وأحب اللي محبط وشايف محال )) ,
ماالعمل ؟ وقد كبرتُ , أو هكذا خُيّل لي ,أحاسيسي تمددت في جسدي كضوءٍ غامضٍ يتسرّب من شقوق الجدران العتيقة , هي تسكن هناك , لكنها بعيدةٌ , بعيدةٌ جدًا , كما لو أنها إحدى مجرّات الإدراك التي لا تقترب إلا حين أغفو بين الكلمات , تغزوني رؤى لا تُرى ,
أجمّعها في رزمةٍ من الحنين , ثم أستلّ منها فكرةً أو شعورًا يليق بسهرٍ مبكرٍ تحت ضوءٍ مائل , قريبٍ من كأسٍ نصف ممتلئ بلذة , أو نومٍ مبللٍ بالحاجة إلى نسيانٍ لا يُريد أن يُنسى , أنا المراهق الذي سكرَ بالحُلم , والذي كلما صحا , اكتشف أن الحقيقة أكثر سُكرًا من الوهم .
تقول غرام الربيعي : (( أحلامي ليست منحنية , فالدرسُ الذّي علّمتْني إيّاهُ الأشجارُ , مازالَ أخضر , الضوءُ الّذي ادّخرته ُ , مازال يكشفُ المسرّات , والعشقُ الذّي يسكنُني , مازال يحتفي بالقبل , فالولادات اليانعة , أنجبتْها فكرةٌ عفيفة لحلمٍ طويلٍ , تشبه الوطن )) , فلا تخن قلبك أيها الغريب , لا ارتواء للسكارى بخمر الحبر ,لا انتشاء للمولعين بأساطير العالم السفلي والأعلى , لا ارتواء للعطاشى إلى الحب بعد الحرب , فقبّلني , ودع الكلام بين شفتيك يثور ويثمل , دع أرغفة الجوع تنضج في تنور الحب , وتسقط على كف الجياع الهائمين بأرواحهم في سماء الحرية التي لم تصبح موطن أجسادهم بعد , فعشاق المستقبل يموتون شوقاَ إلى ركن في حضن القصيدة , وعلى ناصية الشوق في بيوت تشبه فكرتهم عن الوطن , ولم يبق من الأوطان إلا قلوب عشاقها الثوار.
قال لي البحرُ:(( مَن يُبحرُ بلا وجهةٍ, يجد في الضياع وطناً ))فابتسمتُ , كأن شفتيَّ قد خُلقَتا للردِّ على الأقداربابتسامةٍ من نار , و الغيمُ يُطرِّزُ سماءً عرجاء, ريحٌ تتحدثُ لغةً لا يفهمها إلا الجنون , وأنا؟مُمسكٌ بيديَّ الاثنتين على مجدافٍ مكسور , أدرك أن التيار ليس عدواً , بل امتحان يفتح أبواباً نحو اللامعقول , والسباحة ضد التيار ليست خياراً , بل رقصةٌ , إيقاعها صمتُ الأحلام , وسقفها ذاكرةُ الشمس المكسورة , أصابع الموج تلوّحُ كأنها تقول : (( ارحلْ نحوالداخل , حيثُ التيار ليس سوى انعكاسٍ لأفكارك الهاربة )) , و حين وصلتُ إلى الهدوء الذي يسبقُ الهزيمة , وجدتُني محاطاً بصمتٍ أزرق , لا زمنَ هنا , فقط ارتعاشةُ أصابعٍ تبحث عن حبلٍ يربط الوجود بالعدم .