يعبر ابو فراس الحمداني عن حالة مؤلمة وليست نادرة اليوم : (( تسائلني من انت وهي عليمة وهل بفتى مثلي على حاله نكر ؟)) , ليجيب بخيبة (( فقلتُ لها : لو شئتِ لمْ تتعنتي , وَلمْ تَسألي عَني وَعِنْدَكِ بي خُبرُ )) , ويردفه الشاعر الشعبي قائلا : (( يصير ضاع العرف والجرف مل مايه ؟ )) .
تأبى الدمعة أن تنداح من عين العاشق الأسير ولكن قريحته السحّاحة التي لا تعرف حدوداً للعطاء أمطرت وابلاً من الحنين والعتب , وشاعرنا الأمير لم تنسه لوعة الأسر عزة نفسه فراح يزهو مفتخراً بمناقبه الجمة , فهو العاشق المخلص والفارس الذي لا يشق له غبار في ساحات الوغى , وهو القمر الذي لا بد أن يفتقده قومه في الليالي الظلماء وما أكثرها بعد غيابه , وهو الذي لا يهاب الموت طالما أنه النهاية الطبيعية لكل البشر, والقصيدة يفوح منها أريج العاطفة الصادقة والفروسية العربية و الحنين إلى الوطن والحبيبة , إلى الحرية وكيف لا يحن الطائر الحبيس إلى فضائه الرحب.
كلنا يعرف ان الحب والكبرياء كلمتين متناقضتين , فالحب لا يعرف الابيض من ألاسود , و لا يعرف الكبير من الصغير , ولا الوسيم من القبيح , بل ان الحب لا يعرف معنى العنصرية , يقول سلمان العودة : (( الحب لا يعرف صغيرا ولا كبيرا فالكل صغار أمامه , الحب مستعد للانحناء في كل وقت وليس كذلك الأنا , الحب يفرح بالعطاء , الأنا تفرح بالأخذ , الحب يمنح الراحة , الأنا تعطي المتاعب )) .
صنف هرم ماسلو للحاجات الإنسانية الحب ضمن أروع المشاعر التي يمكن أن يقع فيها الإنسان , هو الشيء الوحيد الذي يصعد بأرواحنا من سابع أرضين إلى سابع سماء , يداهمنا بغتةً مهما فرضنا الحصار المشدد على قلوبنا , وربما نُبتلى به بقدر ما عبناه يوماً , واستنكرنا أهله , انه اللغز المحير منذ الأزل , الذي تغنى به الشعراء , وأبدع فيه الأدباء , وعجزت عن تفسير قوانينه الكيمياء والفيزياء , هو أسمى المشاعر الإنسانية وأنبلها , هو الزورق الذي نحتمي به ونلتجئ إليه عندما تهبُّ علينا رياح المحن , وتوهننا نوائب الحياة.
لا طبقية في الحب , لا أمير ولا غفير , لا يوجد فيه تعالي , تذكرت ماقاله دوستويفسكي عن الحب : (( إن الحبٌ بالنسبة إليّ , وأكرّر هذا الكلام على مسمعكم , يعني ممارسة المرء للإستبداد على الآخر , والهيمنة عليه هيمنة روحية , إنني لم أستطع في حياتي كلها , حتى تمثّل شكل آخر للحبّ في خيالي , عدا كونه مجرّد ممارسة للإستبداد , ومن ثَمّ , انتهيت اليوم إلى الاقتناع بين الفينة والاخرى , بأن الحب لا يمكنه أن يكون سوى إعطاء المحبوب للمحبّ , الحقٌّ في ممارسة الاستبداد عليه , بشكل طوعي , إذ حتى في أحلام يقظتي التي ظللتٌ أجنح إليها في القبو , لم أتمثل الحبّ قط إلا على شكل صراع , يبدأ دائماً بالكراهية , لينتهي بالعبودية الروحية )) , فهل الحب فعلاً كذلك ؟ أم أن دوستويفسكي مبالغ في السلبية و السوداوية ؟
تتوحش الروح ويتوحش السلوك ويصبح عدوانياً نزقاً متطرفاً في قسوته القاسية حين يفقد القلب قدرته على الحب , عندما سئل حسين مردان (( هل هجرت المدرسة في بعقوبة هرباُ من الإخفاق الحادّ في تجربة حب فاشلة ؟ )) , أجاب : (( كانت تجربةً قاسيةً , طالما فتحتْ أمامي باب المقبرة , بل وكدتُ أمضي سعيداً إلى ما تحت التراب , لولا قناعتي بأن الانتحار سيعذبني بقبري , لأن الموت لا يريحني , ما دام سيحول دوني ودون رؤيتها ولو من وراء ألف حجاب )) , وهل كانت الفتاةُ جميلةً ؟ وكنتَ بنظرها ذلك الشبح المخيف مثلاً ؟ (( لا أعرف , ولكنني لم أتصور نفسي إلا بهيئة ملاك شبيه بروميو , كنت غارقاً في مرآتها , ولم يسنح لي الغرام أن أحدق بصورة وجهي , لا في مرآة ولا على سبورة أو جدار)) .
في موروثنا الشعبي صور كثيرة للحب الصعب او المستحيل : ((ضماد الروح , طين انت وخذيت الروح لو من ذهب شتسوي ؟ )) , ((تری النظرات ھم جلمات , يسمع صوتھا اليفھم )) , ((ليش اجيت بتالي عمري وفززت كل المشاعر؟ وانه بابي مسلسل بكل الحديد وقفل بابه وكلشي هاجر)) , ((أوشل كل نده بروحي اذا يوم العطش جاسك , , أريد أدثر بصوتك , وأحوك سوالفك جرجف وأموت نعاس )) , ((يا ناكوط بارد و الوكت تموز , ما عندك نداوه عروكنة احتركت )) .