مهنة (( الأمشجي )) هي مهنة تاريخية تعود إلى أيام الاحتلال العثماني , وكان صاحبها يسير حافيًا أمام عربة الباشا أو رجل الدولة , دافعًا المارة ومبعدًا إياهم عن الطريق وهو ينادي بعبارات مثل (( امشي… هش… ابعد )) , أو (( وسّع للباشا يا جدع )) باللهجة المصرية , كانت هذه المهنة تهدف إلى تمهيد الطريق للشخصيات المهمة وإظهار نفوذها, وعلى الرغم من مرور الزمن , لم تنقرض هذه المهنة الوضيعة , بل تغير شكلها وتحوّرت لتتناسب مع السياق الحالي , في العراق اليوم , يمكن ملاحظة تجليات مختلفة لـ (( الأمشجي)) المعاصر , خصوصًا في المشهد السياسي والانتخابي , و يُلاحظ أن هذه المهنة تغيّر شكلها فقط , أو تحورت على شكل (( بودي جارد )) أو نبّيحة حاكم أو شبّيحة مجرم , أو زبانية إعلام و و أبواق الوكالات الإخبارية.
(( الزمار والطبال وكل من يشتغل في اللهو لا تُقبل شهادته )) , هكذا كان القضاء المصري قديما يتعامل مع من يمتهنون صنعة (( التشخيص )) (التمثيل) , وقد استمر في رفض شهادتهم حتى الخمسينيات من القرن الماضي , والواقع أن المجتمع كله كان ينظر إلى المهنة وأصحابها بدونية , ويستخدم كلمة (( مشخصاتي )) (الممثل) للتقليل من شأن ممتهنيها , وقد دخل التمثيل المسرحي مصر عام 1833 من خلال (( مهرجين )) كانوا يقدمون فقرات للترفيه في المناسبات لدى الأسر الغنية , ولكن على مرّ عقود بعد ذلك بذل بعض رواد تلك المهنة جهودا مميزة لتحسين النظرة إليها , ولتلعب دورا يحترمه الناس , مهنة أخرى من العصر ذاته لم تكن محل تقدير اجتماعي هي ))الأمشجي )) , وهو ذلك الرجل الذي كان يسبق مواكب الأثرياء وكبار المسؤولين ليفسح لهم الطريق هاتفا في الناس (( وسع يا جدع )) (أفسح الطريق) , والمفارقة أن هذه الوظيفة التي ينظر إليها المجتمع بدونية كانت من لوازم الأبهة والتفخيم التي يلجأ إليها الأثرياء ليشعروا المارة في الطرقات بأهميتهم.
انقرضت مهنة (( الأمشجي )) واختفت من الشوارع والطرقات , لكنها ظهرت بأشكال أخرى في فضاءات بديلة , هناك من يقوم بهذا الدور لنفسه وبنفسه فنكاد نسمعه يقول (( وسع يا جدع )) كلما ظهر في فضائية أو نشر شيئًا على منصات التواصل الاجتماعي , وكأنه سيأتي بما لم يأت به من سبقوه منذ بدء الخليقة , ومع الإلحاح (( والزن )) (التكرار) يجد من يتطوعون للعب دور (( الأمشجي )) له مجانا وبحماس زائد , وصدق المثل الشعبي (( الزنّ على الودان أمرّ من السحر )) أي التكرار أشد تأثيرا على الأذنين من السحر , لنكون إزاء سيل من القيم والنماذج والأفكار المريضة والغريبة تحفل بها أعمال درامية , وبرامج تلفزيونية , ومنشورات في الشبكات الاجتماعية , وهي محمية جميعها بهؤلاء (( الأمشجية )) الذين يضفون عليها هالات المهابة , ويرهبون من يحاول نقدها من الجماهير.
باختصار, يمكن القول إن مهنة (( الأمشجي )) لم تختفِ , بل تطورت وتكيفت مع متطلبات العصر , وأصبحت أكثر تعقيدًا وتأثيرًا , خصوصًا في المشهد السياسي والانتخابي في العراق , إنها تعكس جانبًا من الديناميكيات الخفية التي تشكل الرأي العام وتؤثر على سير العملية الديمقراطية , وأصبح الأفراد الذين يؤدون دور البودي جارد والحماية الشخصية جزءًا أساسيًا من حاشية السياسيين والشخصيات النافذة , مهمتهم لا تقتصر على تأمين الحماية الجسدية فحسب , بل تمتد لتشمل إظهار قوة ونفوذ الشخصية التي يحمونها , فهم يمهدون الطريق في التجمعات والمناسبات , ويتحكمون في حركة الجمهور حول السياسي , وفي عالم الإعلام , ظهرت فئة من (( الأمشجية )) الجدد الذين يعملون على ترويج أجندات معينة والدفاع عن سياسيين أو كتل انتخابية , هؤلاء يقومون بنفخ صور بعض المرشحين وتشويه صورة المنافسين , مستخدمين مختلف المنصات الإعلامية, يمكن أن يكونوا محللين سياسيين متحيزين , أو إعلاميين يروجون لخطاب معين , أو حتى حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي تعمل بشكل ممنهج لدعم جهة معينة.
(( النبيحة )) الإعلامية وأبواق الوكالات الإخبارية , والشبيحة والزبانية في العمل السياسي , في بعض الأحيان , قد يتخذ الأمر منحى أكثر خطورة , حيث تظهر مجموعات تعمل كـ(( شبيحة )) أو (( زبانية )) لأحزاب أو شخصيات سياسية , هؤلاء قد يستخدمون الترهيب أو الضغط للتأثير على الرأي العام أو حتى على الناخبين مباشرة , خاصة في أوقات الانتخابات , هدفهم هو إزاحة أي عائق أمام مرشحيهم , سواء كان ذلك عائقًا ماديًا أو معنويًا يتمثل في الأصوات المعارضة , وفي ظل التحضيرات للانتخابات الجارية في العراق , تتجلى ظاهرة (( الأمشجي )) بوضوح , نرى حملات إعلامية ضخمة تهدف إلى (( تمهيد الطريق )) لمرشحين معينين , سواء كان ذلك من خلال البرامج الحوارية التي تمدح إنجازاتهم , أو الأخبار التي تتجاهل سلبياتهم وتبرز نقاط قوتهم المزعومة , كما نشهد انتشارًا للجان الإلكترونية التي تعمل على تضليل الرأي العام ونشر الشائعات ضد المنافسين .
ان الانتقال من الامشجي التقليدي العتيق الى الامشجي المودرن , يؤشرالتغير في الشكل والاسلوب اما الجوهر والمضمون فقد ظل على حاله , هذه هي ثقافة الخازوق وما انبثق عنها من أمجاد اِختصوا بها من هم أهل لها ,هذا هو عصر ألأمشجية الذي يتصدر المشهد فيه كثير من أنصاف المواهب ومحدودي القدرات , والويل لمن (( يتطاول )) فينقد عملا من أعمالهم أو ذواتهم (( المقدسة )) , يتحول هذا الناقد مباشرة إلى ظلامي معاد للتقدم , وهو لا يقدر من (( يضحون بحياتهم لإسعاد الناس )) , وكأن أحدا طلب منهم التضحية أو تظاهر عند اعتزال أي منهم , وكأنهم لا يتقاضون تلك الأموال الغزيرة في مقابل التضحيات المزعومة , بعض هؤلاء يتقمصون حاليا أدوار قادة الرأي , ويمطروننا بمزاعم عن دورهم في (( رفع وعي الجماهير)) , ثم تراجع ما قدموه فلا ترى إلا ابتذالا محضا لا يحاول التخفي , هذا السيل من الغثاء هو تهديد كبير لقيمنا وأفكارنا ووجداننا وذوقنا , والاستسلام له يعني فقدان الأمل في المستقبل , فهل نقبل بالتردي المتواصل والمتنامي؟ أم نصارعه لنصنع لأنفسنا مكانا ومكانة تليق بنا ؟