قال زهير بن أبي سُلمى في معلقته بيتا يُعدّ من أشهر أبيات الحكمة في الشعر العربي , ويتناسب مع معنى المثل أدناه : (( ومن يَكُ ذا فضلٍ فيبخل بفضله على قومه يُستَغْنَ عنه ويُذْمَمِ )) .

(( أيها الاسكافي , لا تتجاوز حدود النعل )) , عبارة قديمة منسوبة إلى رسام يوناني شهير يُدعى أبيلّيس , وتَختزل القصة أن أبيلّيس كان يعرض لوحاته في الأماكن العامة , وقد فوجئ يوماً بإسكافي يُنبهه إلى خطأ في رسم الحذاء في إحدى لوحاته , فقام بتصحيحه أمام الجمهور شاكراً للإسكافي ملاحظته , لكن هذا الأخير, وأمام إعجاب الناس بملاحظته , تمادى في تقديم المزيد من الملاحظات حول أخطاء أخرى رآها في اللوحة , فكان ردّ الرسام عليه بمقولته الشهيرة : أيها الإسكافي , لا تتجاوز حدود النعل , هذه العبارة تعني , لا تتجاوز مجال خبرتك أو تتدخل في أمور لا تفهمها أو لا تملك المعرفة الكافية بها, هي تحذير لمن يحاول أن يكون ناقدًا أو معترضًا في أمور خارج نطاق تخصصه.

يُعدّ هذا المثل الشعبي من الأمثال الحكيمة التي تنطبق على الأجيال في العراق , ويحمل في طياته دلالات عميقة تتجاوز معناه الحرفي لتلامس جوانب عديدة من حياة الفرد والمجتمع , وهو دعوة صريحة إلى الالتزام بالحدود , وعدم التطفل على ما لا يخص المرء, وإدراك المرء لقدراته ومسؤولياته , وفي جوهره , يدعو المثل إلى التخصص واحترام الأدوار, فكما أن الإسكافي يبرع في صنع الأحذية وإصلاحها , فإن لكل مهنة اختصاصها ولكل فرد موهبته , إن محاولة تجاوز هذه الحدود تؤدي غالباً إلى الفوضى , وتدهور جودة العمل , وضياع الجهود , وفي السياق العراقي , حيث تتنوع المهن والحرف , يبرز هذا المثل كقاعدة أساسية لضمان سير الحياة بسلاسة , وتشجيع الأفراد على إتقان ما يقومون به بدلاً من تشتيت أنفسهم في مجالات لا يملكون فيها الخبرة الكافية.

تتجلى العبرة من هذا المثل في حياة العراقيين اليومية على مستويات عدة , ففي المجال المهني يُطبّق المثل في العمل , حيث يُنصح الموظف بعدم التدخل في صلاحيات زملائه أو رؤسائه , فالطبيب يجب أن يلتزم بمهنته , والمعلم بدوره التربوي , والمهندس بمجال تخصصه , تجاوز هذه الحدود يمكن أن يؤدي إلى أخطاء فادحة , وإعاقة لسير العمل , وتوتر في العلاقات المهنية , وفي العلاقات الاجتماعية يدعو المثل إلى احترام خصوصية الآخرين وعدم التدخل في شؤونهم الشخصية , فالتطفل على حياة الجيران , أو التدخل في خلافات الأقارب دون طلب , غالباً ما يؤدي إلى مشاكل أكبر وسوء فهم , العراقيون , بحكم طبيعتهم الاجتماعية , يقدّرون الروابط الأسرية والعشائرية , لكنهم في الوقت نفسه يدركون أهمية الحفاظ على مساحة شخصية لكل فرد.

يمكن توسيع مفهوم المثل ليشمل ضرورة التزام كل جهة أو مؤسسة بحدود مسؤولياتها وصلاحياتها , فعندما تتجاوز الأحزاب السياسية أدوارها , أو تتدخل المؤسسات الدينية في شؤون الدولة بشكل مبالغ فيه , أو تتعدى السلطات التنفيذية على سلطات أخرى , فإن ذلك يؤدي إلى اختلال التوازن المجتمعي ويزعزع الاستقرار, وفي التواضع واحترام الخبرات يعلمنا المثل أيضاً التواضع وعدم ادعاء المعرفة في كل شيء , فالحكمة تقتضي الاعتراف بالجهل في بعض الأمور, وطلب المساعدة من أهل الاختصاص , هذا الاعتراف يفتح الأبواب أمام التعلم والتطور, ويعزز من ثقافة تبادل الخبرات والمعرفة .

ينظر لهذا المثل كبوصلة أخلاقية أكثر من مجرد مثل شعبي , يرشد الأفراد والمجتمعات نحو سلوكيات قويمة , ويحث على التأني قبل الإقدام , والتمعن في العواقب , وتقدير الذات دون غرور, وتقدير الآخرين دون حسد , وفي عراقٍ شهد تحديات كبيرة وتغيرات متسارعة , يظل هذا المثل صوتاً للحكمة , يدعو إلى الالتزام بالمبادئ الأساسية , والتوازن , واحترام أدوار الجميع لبناء مجتمع أكثر استقراراً وتقدماً .

لقد سئم العراقيون من حكومة تتقن فن التبرير أكثر مما تتقن التسيير, ومن مسؤولين لا يرون في المناصب سوى وسيلة للإثراء على حساب المواطن , غلاء الأسعار , تدهور الصحة والتعليم , البطالة التي تخنق الشباب , وٱنعدام أي بوادر للإصلاح , كلها مشاكل تعكس عجز هذه الحكومة عن تحمل مسؤولياتها , وفي خضم هذا الفشل المتراكم , لم يبقَ للعراقيين سوى التطلع إلى المخلص النزيه الوحيد الذي يراعي مصلحة الشعب في ظل حكومة غارقة في العشوائية والمصالح الشخصية , لقد بات العراقيون يحلمون وينتظرون قرارات حاسمة في مختلف القطاعات , لأنهم فقدوا كل ثقة في حكومة أثبتت أنها لا تملك سوى الخطابات الفارغة , قرارات تضع حدًا للغلاء الفاحش , وتنقذ التعليم والصحة من الإنهيار , وتحمي المواطن من جشع المضاربين والمنتفعين , فيا أيها الإسكافي , لا تتجاوز حدود النعل , فالسياسة ليست مضاربة , والبلاد ليست ضيعة خاصة , والشعب ليس قطيعا يُطلب منه الصبر بينما تُنهب خيراته , وإذا كانت الحكومة عاجزة عن أداء دورها , فالحل بيد من يضع مصلحة الوطن فوق كل ٱعتبار.

كتب عبد الرحمن منيف : (( جزء من الخسارة التى تلحق بالبلدان أنها تركن إلى الأوهام , وتعيش فى الماضى , وتخطىء فى قراءة الواقع واحتمالات المستقبل , فإذا لم يُحسن استيعاب التاريخ ولم يجر معرفة الجديد , فإن كل شىء سيتحول إلى ذكريات وأغانٍ حزينة )) ,  ويقول عبد المنعم حمندي : (( كم حسرةٍ في الرافدينْ كَبُرت معي , والحزنُ يَكبُرُ مرّتيَنْحتى تشابكت الطفوفُ بمذبحَيَنْ , رأسُ العراق على القَنا ,  وأمامهُ رأس الحُسينْ )) وتقول لميعة عباس عمارة : (( مبرمجةٌ مصائبنا بحثقٍ لعذرٍ أو بلا عذرٍ تصيّبُ )) .

أحدث المقالات

أحدث المقالات