دخلت في نقاش شيّق مع صديقي السبعيني حول مفهوم الاستثمار وأثره على جودة الحياة, كان يرى أن الاستثمار الحقيقي الذي يؤدي إلى حياة سعيدة وعيش رغيد يكمن في شراء الذهب والأملاك , وذلك لمواجهة متطلبات الحياة ونفقاتها المتزايدة , وجهة نظره منطقية وتتوافق مع التفكير التقليدي السائد , فكثيرون يرون في الأصول المادية ملاذًا آمنًا يحفظ قيمة المال ويؤمن المستقبل , أما أنا , فكان لي رأي مختلف تمامًا , كنت أؤكد على أهمية الاكتفاء بما لدينا من موارد , والتركيز على ذواتنا ومشاعرنا الداخلية , خاصة ونحن في هذه المرحلة العمرية المتقدمة التي تقترب فيها الرحلة من نهايتها , رأيت أن الاستثمار الأمثل هو في الحب والعاطفة.
يُعزى للإمام الشافعي قوله في القناعة والراحة النفسية , والصبر والتعامل مع تقلبات الدهر, وتشير إلى أن السخاء (والذي يمكن تفسيره هنا كعطاء معنوي) يغطي العيوب , وهو استثمار في السمعة الحسنة والرضا , : (( دع الأيام تفعل ما تشاءُ وطِبْ نفسًا إذا حكم القضاءُ , ولا تجزعْ لحادثةِ الليالي فما لحوادث الدنيا بقاءُ , وكنْ رجلاً على الأهوالِ جلدًا وشيمتُكَ السماحةُ والوفاءُ , وإنْ كثُرتْ عيوبُكَ في البرايا وسرَّكَ أنْ يكونَ لها غطاءُ , تسترْ بالسخاءِ فكلُّ عيبٍ يُغطّيهِ كما قيلَ السخاءُ )) .
قد يبدو هذا الطرح غير مألوف للبعض , لكن دعونا نفكر مليًا , ما قيمة الثروة المكدسة إذا كانت النفس منهكة , والروح فارغة , والعلاقات متوترة ؟ إن السعي المحموم وراء جمع المال وتملك الأصول قد يأخذ منا وقتنا وجهدنا وصحتنا , ويزيد من مستوى التوتر والقلق , ويفقدنا القدرة على الاستمتاع باللحظة الحالية , وعندما نستثمر في الحب , فإننا نستثمر في بناء علاقات قوية وداعمة مع الأهل والأصدقاء والمجتمع , هذه العلاقات هي التي تغذي الروح وتمنحنا شعورًا بالانتماء والسعادة الحقيقية , الاستثمار في العاطفة يعني أن نكون متصالحين مع أنفسنا , أن نتقبل مشاعرنا , وأن نعيش بهدوء وسلام داخلي , إنه يعني أن نخصص وقتًا لذواتنا , لممارسة الهوايات التي نحبها , للتأمل , وللاستمتاع بجمال الحياة البسيط .
اشتهر أبو العتاهية بشعره الذي يحمل طابع الزهد والحكمة , وله أبيات تتحدث عن زوال الدنيا وأهمية ما يبقى : (( هي الدنيا فلا تبكي عليها إذا أعطتكَ أو منعَتْكَ شيَّا , فما يبقى على الأيام شيءٌ وإن طالتْ لياليكَ العليَّا , وما الأرزاقُ إلا قسمةٌ لها أجلٌ إذا ما جئتَ حيَّا , ودَعْ ما فاتَ من دهرٍ تولَّى وفكِّرْ في الذي يأتي هنيَّا )) , وهي أبيات تدعو إلى عدم التعلق بالدنيا وما فيها من ماديات , وتذكّر بزوالها , مما يعزز فكرة الاستثمار في ما هو باقٍ وأكثر قيمة معنويًا.
صحيح أن الذهب والأملاك قد توفر لنا الأمان المادي , وهذا أمر لا يمكن إنكاره , لكن هل يكفي الأمان المادي وحده لجعل الحياة سعيدة ورغيدة ؟ غالبًا ما نجد أن الأشخاص الأكثر ثراءً ليسوا بالضرورة الأكثر سعادة , السعادة الحقيقية غالبًا ما تنبع من الرضا الداخلي , والعلاقات الإنسانية الدافئة , والشعور بالهدف والمعنى في الحياة , في نهاية المطاف , الاستثمار ليس فقط مسألة مالية , إنه خيار شخصي يتعلق بكيفية تخصيص مواردنا الأغلى: وقتنا وطاقتنا ومشاعرنا , ربما يكون التوازن هو المفتاح , فليس من الحكمة إهمال الجانب المادي تمامًا , ولكن من الأهمية بمكان ألا نجعله محور حياتنا الوحيد , (( وإذا كان المال يحيا الروح من كدرٍ فلا تبتئس لجمعه يا ذا النهى الفطن , فالذهب والملك حصنٌ لا يضام به من غدر دهرٍ ومن عوزٍ ومن شجن )) .
زهير بن أبي سُلمى من شعراء الجاهلية , وله أبيات تصف أهمية الأخلاق الحميدة والحكمة , والتي هي استثمار في قيمة الإنسان : (( ومن يكُ ذا فضلٍ فيبخلْ بفضلهِ على قومِه يستَغنَ عنه ويُذمَمِ , ومن يقتربْ من حُبِّ الموتِ يلقَهُ إذا هو لم يحملْ على النفسِ لا يُممِ , ومن يجعلْ المعروفَ من دونِ عرضهِ يفِرْهُ ومن لا يتقِ الشتمَ يُشتَمِ )) , وهذه الأبيات وإن كانت في سياق مختلف , إلا أنها تلمح إلى قيمة الفضل والمعروف وحفظ العرض, وكلها استثمارات معنوية تعود بالنفع على الفرد ومكانته بين الناس.
الاستثمار في الحب والعاطفة , في السلام الداخلي والرضا , في العلاقات الإنسانية الأصيلة , هو استثمار لا يفقد قيمته أبدًا , إنه ينمو مع مرور الوقت , ويثمر سعادة وراحة بال لا تقدر بثمن , خاصة ونحن على وشك مغادرة هذه الدنيا , فهل آن الأوان لكي نعيد تعريف مفهوم الاستثمار في حياتنا ؟ لأن الاستثمار الحقيقي لايقتصر على الماديات, بل يمتد ليشمل الجوانب الروحية والأخلاقية والإنسانية , وهو ما كان محور النقاش مع الصديق السبعيني , والسعادةُ ليست في كنوزٍ ولا في ملكٍ يزيدُ الهمَ , فكم من ثروةٍ قد أورثت شقاءً , وكم من فقيرٍ بالحب قد غنى , (( فاستثمرِ الروحَ في ودٍ ومكرمةٍ فالقلبُ بالودِ خيرُ ما قد اقتنى , وعشْ بسلامٍ ونفسٍ راضيةٍ فالراحةُ الكبرى في الرضا , حيثما كانا فالعمرُ يمضي كظلٍ عابرٍ عجلٍ فاجعلْ ختامَك حبًا ينشرُ السكنا )) .