أنتشرت أيام الشباب أغنية عاطفية بالأنكليزية لديميسيس روسيس أسمها ((My Only Fascination )) , يقول في مطلعها : (( فاتنتي الوحيدة ,أنتِ فاتنتي الوحيدة , مبهرتي الحلوة كل شيء كنت آمل أن أكونه , أنتِ الفجر الذي يُشرِقُ لي , نسمتي الصيفيّة البحريّة )) , تعلقنا بها , ورددناها , ومذ ذلك الحين , بقيت كلمة (( ألأنبهار Fascination )) في أعماق الوجدان , تلمع كلما لاح بارق يدعونا لتذكرها , لينتصب لحنها وكلماتها مشعلا مضيئا لأحلام كانت حلوة , حين كانت النفوس متألقة بفيض العطاء , وكان الحب ينبوع لا ينضب .
توارثنا فكرة ان أي جيل وخصوصا جيل هذه الأيام , يحتاج إلى شيء من الانبهار حتى لو كان اقتباساً ليرنو به عالياً ويُشعل جمرة الحلم والطموح والأمل , فالانبهار محرك لبذل الجهد والتحمل والجهاد من أجل غد سعيد أكثر صدقاً , ومن يتصفح التاريخ البعيد والقريب , سيرى أن الانبهار محرك النخب والأجيال , وهو الواقف وراء الإنجازات التاريخية , ذلك أن الإنجاز مرتبط بالانبهار , فمن انبهروا بآيديولوجيات معينة تمكنوا من تحقيق الجزء المضيء منها وعاشوا الارتباط الفكري ورحلته الشاقة , إن الانبهار المقصود هو ذلك الذي يروق لنا ويصلح ليكون قضية نؤثث بها العمر, ونجني المعنى أو نمنحه حياتنا من أجل تحقيق ذلك المعنى.
كان لجيلنا انبهارا من نوع خاص , الانبهار بفكر , الانبهار بقضية , الانبهار بقيم , الانبهار بدولة , الانبهار بشخصية فكرية أو سياسية , وما هو ثابت أنه كان دائماً يوجد ما هو جدير بالانبهار , والآن بعد ان تهاوت آيديولوجيات كثيرة , بل إن الآيديولوجيا نفسها أُعلن خبر نعيها ولم يتبقَّ من الآيديولوجيات غير سلبياتها , بعد أن تعرَّت تماماً , وتلاشى ما كانت تحمله من انبهار شدَّ إليها أجيالاً وأجيالاً , أجيال آمنت بالاشتراكية , وأخرى ليبرالية , وأخرى اختارت الفكرة القومية , وزاوجت بينها وبين التوجه نحو المعسكر الاشتراكي زمن الحرب الباردة , ولِنَقُل إنه حتى التسعينات من القرن الماضي كان يمكن الانبهار, وما بعد تاريخ حرب الخليج الأولى وإلى حد الساعة , فإن حالة الانبهار تتدحرج من أزمة إلى أخرى أكبر وصولاً إلى ما يشبه العدم.
بعد سقوط الآيديولوجيات التي نجحت في أوج ظهورها وقوتها في إنتاج نخب ذات نضالية عالية , ونشطت الحياة الفكرية والنقدية , وخلقت نوعاً من الصراع الآيديولوجي البناء, فإن الأجيال التالية حوَّلت وجهة الانبهار إلى مدارات خارج الآيديولوجيا التي بلغت منتهاها , أصبحنا أكثر انبهاراً بحقوق الإنسان وبالديمقراطية وبالحلم الأميركي والمدنية الأوروبية , والمشكلة اليوم أنه حتى مضامين الانبهار الجديدة في أزمة , كلها تلاشت دفعةً واحدةً , وفي اللحظات التاريخية ذاتها , كمٌّ هائل من الأحداث أطفأ المضامين الجديدة للانبهار, وأظهر حجم الزيف العالق بها , المشكلة الكبرى أن هذا الانطفاء قتل فكرة الانبهار , والرّهان على فكر وفكرة , والنتيجة اليوم واقعية تلبس قناع اليأس , وتبين انه لا شيء يبعث على الانبهار بأكذوبة حقوق الإنسان , لا شيء يُحرض على الانبهار بالديمقراطية ذات الكواليس المفجعة , لا شيء ما زال يبهرنا بالغرب , فهل انعدم الانبهار كلياً أم أن الانبهار في أزمة قد تكون عابرة؟
ألإنبهار الروحي لا يزيف بصرف النظر على الظواهر, ربما يكون الانبهار مستمر لحين وقوع اول موقف ليكشف لنا صدق أو زيف مابهرنا , فقد يحدث انبهار الروح لشيء ما للابتعاد عن الهموم اوالروتين , والعواطف لاتصلح للاحكام اذا لم تتداركها العقول ,فقد يبهرنا البريق ولكنه لم يكن الماسا , ولذا فهم يحذرونا قائلين : اياك والانبهار ,فهو يريك كل شيء على غير حقيقته , يريك بريقا لكل ما ترى حتى للظلام , ولكن بعد ان ينتهي انبهارك ستعود الاشياء كما كانت , سينتهي الشغف بالتفاصيل , وسيغادرك التعلق بمن شعرت انك جزءا منه , وستبدأ ترى كل شيئا طبيعيا , بل قد تضجر من كثير مما كنت تراه ملهما , وقد تود الخلاص من كل ذلك , فانتظر قليلا قبل ان تبوح بما فيك , تجاه احدهم , او تجاه مكان ما , او تجاه عمل ما , او تجاه رغبة ما , فلا تبح بانبهارك كي لا تكون مبهما , فسنة الحياة تغيير , وحتى ما نعشق من الوان الربيع لن تسلم ولن تبقى كما هي .
هناك ما يُعرف بمنحنى ابن خلدون لتداول الحضارات , وفيه ان تقليد الضعيف للقوي وانبهاره به عادة إنسانية قديمة , وهو ليس بسلوك ينحصر في مجتمع ما أو في زمن ما, فقد يصبح الضعيف المنبهِرُ بالآخر قويّاً منبَهَراً به , هذا ما حصل للعرب من الغساسنة والمناذرة الذين كانوا منبهرين بالفرس والروم , وبعد أن جاءت رسالة الإسلام , وقويت شوكتهم وأسسوا حضارة إسلامية بلغت المشرق والمغرب , انقلبت الآية فأصبح المسلمون محطّ إعجاب وانبهار الأمم الأخرى , حتى كان الملوك في أوروبا يبعثون بأبنائهم إلى بغداد ودمشق وقرطبة لتعلم العربية والتزود بما توصل إليه المسلمون من علوم وفنون وحضارة , ثم دارت الأيام وانقلبت الأحوال فنهض الغربيون من ظُلمتهم , بينما تراجع المسلمون , فتولّوا هم قيادة قطار الحضارة البشرية , في الوقت الذي تخلفنا فيه نحن عن الركب , وعليه فإن الإعجاب والانبهار بما عند القوي من تطور علمي وتكنولوجي وحضاري مطلب ضروري , إذا كان الباعث على ذلك الرغبة في التطوير والاستفادة بما عنده من علوم ومعارف ونظم وحضارة مادية متطورة, وأن يكون المرء انتقائياً , فيختار ما يناسب عقيدته ودينه , وينبذ ما يخالف ذلك من عادات وسلوكيات ومعتقدات .