يتغنى صاحبنا الثمانيني بحبه للوطن , ويتذكر ايام ألأغتراب , فهو من أجيال كانت تعطي أنفسها للوطن , في حين اصبحنا أزاء أناس يعطون الوطن لأنفسهم , وكم وثقنا بافاع تمظهرت بصورة احبة , ولم نكتشفها الا بعد ان غرست انيابها في قلوبنا , والاغتراب أن تكون بعيدا عن الأهل والأحباب في بلاد أخرى , يريد الشعراء من خلاله التعبير عن أحاسيسهم وما يخالجهم من حنين وشوق للأهل والأحباب والوطن نتيجة الابتعاد , ويعتبر امرؤ القيس صاحب هذا البيت ((اجارتنا انا غريبان ها هنا وكل غريب للغريب نسيب ))هو اول من بكى على الاطلال وأول المغتربين في الشعر القديم.

الغناء  حشيشتُنَا الْمُنْتقاةُ , رسائلنا الى مستوطني القلوب , سيّارةُ إسْعافٍ تُنْقذُنَا منَ السّكْتةِ الدّماغيّةِ وحسرة المستحيل , عصير القلوْبٍ التي تحبُّ الْحياةَ , الا ولّيْتُ وجْهِي صوْبَ الغناء لِأموتَ شعْراً , فلْنحب الغناء مَااسْتطعْنا, ونحن نعرف ان المغنون يتْبعُهُمُالْغاوونَ , والمغنيات هنَّ الْغوايةُ , في بقايا طرق الغربة  يقل الرفاق , وكلما قلوا اكثر استقامت الخُطى وخفَّ الاضطراب والغبار وصار للغناء مع النفس حلاوة وبهجة  ,هل جربتم صغارا تلك البهجة ؟ كنّا حين نعود من الحقول او البساتين فرادى وتعتم الدروب وتتصايح الثعالب والكلاب ويلامس الخوف أعطافنا النحيلة الراعشة نرفع عقيرتنا بالغناء لتفادي وحشة الخوف  , هكذا علمونا , (( اذا اوحشتك الدروب وكنت وحيدا فغن ِّ, ارفع الصوت بأقصى ما تستطيع وغن ِّ, لا شيء يطرد الخوف كالغناء , وإن خسرت فغن ِّ, لاشيء يعوض الخسارة غير الغناء )) , رغم ان هناك خسائر لاتحتاج لان تعوضها , فهي مجرد أعباء اثقلت كواهلنا بها سوء تصاريف الزمان  .

الشاعر بدر شاكر السياب تتفجر في قلبه ينابيع الغربة القاتلة والحنين الى الوطن , يكتب قصيدته الرائعة (غريب على الخليج) منادياً العراق عبر مضامين وطنية عالية التأثر , فيها من الاحاسيس ما هو أروع , يقول مخاطباً زوجته : (( لو جئت في البلد الغريب إلى ما كمل اللقاء , الملتقى بك و العراق على يديّ .. هو اللقاء , الشمس أجمل في بلادي من سواها , والظلام , حتى الظلام – هناك أجمل ,  فهو يحتضن العراق , بين القرى المتهيّبات خطاي والمدن الغريبة , غنيت تربتك الحبيبة , وحملتها فأنا المسيح يجرّ في المنفى صليبه )) , وفي قصيدة أخرى من قصائده في الغربة يقول : (( لأنّي غريب , لأنّ العراق الحبيب بعيد وأني هنا في اشتياق إليه إليها أنادي : عراق , فيرجع لي من ندائي نحيب , تفجر عنه الصدى , أحسّ بأني عبرت المدى إلى عالم من ردى لا يجيب , ندائي وإمّا هززت الغصون , فما يتساقط غير الردى )) .

يريد صاحبنا ان يزرع قيما جمالية وانسانية ووطنية في نفوس الناس والناشئة , وان يعالج التوترات, وذلك من خلال الشعر , بلسم لجروح دامية مؤلمة خطها الزمن على صفحات اديم حياة الانسان , (( بعد يعوينتي اعليمن , نعد االيالي ونسهر , جزانا الريل بشطوط الهجر حدر , بعد يعوينتي اعليمن , لا جيه بعد منهم , ولا گعدات گمريه ولا ريه اتحضن ريه , بعد يعوينتي اعليمن , گتلي اشوكت گتلي , ظلمت دنيانا ماتنطر , هدمت حيلي يعرگ الشيص , يابردي ولك بردي ولا عنبر )) , انه الجمال والابداع والمتعه  , طاقة ابداعية خلاقة تتجلى فيها النفس ويعبر فيها الانسان بما يقوله او يكتبه عن ألأغتراب .

في أستذكارات ايام ألأغتراب , يعجبني الغناء خصوصا مايطرب منه , تلك صفة رافقتني منذ أيام الصبا , ومع تقدم العمر وتطور الفهم بدأت أحس ان روحي تتفاعل معه بفرح يصل لدرجة البكاء, حين عملت في روما عرفت ان الأيطاليين لديهم مثل شائع يقول : (( الفرح لا عائلة له , وللحزن زوجة وأولاد )) , يعن علي المقام العراقي وغناء الريف وأبو ذياته وزهيرياته , كما تتطاير الروح اذا سمعت صدى الأندلسيات السورية وحفلات ام كلثوم وعبد الوهاب , و يستهويني أيضا فرانك سيناترا ومطربي الغناء الريفي الأميركي وأسطواناتهم التي تركتها في العراق , ولازلت عاشقا لخوليو الأسباني ,واتذكر كيف كنت أدع الكرام يصدح بهم في أرجاء البيت عندما يضيمني الضيم فأهرب لهم , وكيف مرت في الستينات أغاني نجاة الصغيرة على مشاعرنا خصوصا ( أنا بستناك ) وساكن قصادي فيزداد الحنين لسماعها لتنقلني الى ذكريات ذلك الجزء الجميل من سفرة العمر.

ماذا يفعل بنا هذا المندلاوي الجميل , ونحن نتفاعل مع نشرياته الملتاعة ؟

أحدث المقالات

أحدث المقالات