18 ديسمبر، 2024 7:20 م

مقالة لاكشين المنسية عن تشيخوف

مقالة لاكشين المنسية عن تشيخوف

يرتبط اسم فلاديمر ياكوفليفتش لاكشين ( 1933 – 1993 ) بظاهرة البحث العلمي الاصيل والمعمق في تاريخ الادب الروسي ( انظر مقالتنا عنه بعنوان – لاكشين والادباء الروس الكبار ) , ويمكن القول ايضا , ان لاكشين يرتبط باسم تشيخوف في بداية مسيرته , ولازال كتابه الشهير – ( تولستوي و تشيخوف ) يعدّ – ولحد الان – احد المصادر المهمة لدراسة تشيخوف وابداعه والمقارنة بينه وبين تولستوي , رغم ان الطبعة الاولى لهذا الكتاب صدرت عام 1963 , وعندما احتفلت روسيا بالذكرى ( 160 ) لميلاد تشيخوف في شهر كانون الثاني / يناير من هذاالعام ( 2020) , اهدى لي أحد زملاء الدراسة الروس بجامعة موسكو في الايام الخوالي عددا قديما من مجلة ( فبروسي ليتيراتوري )( قضايا الادب) , الصادر في عام 1960 , وقال لي , انه حصل على هذه المجلة صدفة , وقرر ان يهديها لي قائلا – ( ان هناك مفاجأة طريفة لك على صفحات هذه المجلة العتيقة , وانك يجب ان تكتشفها بنفسك ). أثارتني هذه ( الهدية!) والكلمات التي سمعتها حولها , وعندما بدأت بتصفّح المجلة , فهمت طبعا , ان زميلي يقصد مقالة لاكشين عن تشيخوف , اذ انه يعرف (ولعي الشديد !!) بتشيخوف , وانه يعرف ايضا , باني ( احب كلمن يحبه !!!) كما يقول ناظم الغزالي في اغنيته الشهيرة. وقرأت المقالة تلك طبعا بكل سرور , واود ان ( ادردش ) حولها قليلا مع القراء العرب , لاني اظن , ان الدردشة هذه ستكون ممتعة لهم ومفيدة على الاغلب , اذ ان تشيخوف هو واحد من الادباء الروس القريبين روحيا لهؤلاء القراء .
ابدأ الدردشة بالحديث عن ذلك العدد العتيق من مجلة ( قضايا الادب ) , اذ انه صادر قبل خمسين سنة مضت , اي في عام 1960 , وهو العام الذي احتفلت به روسيا بالذكرى المئوية الاولى لميلاد تشيخوف . ومن الطبيعي ان يكون هناك ملف خاص في تلك المجلة حول هذه الذكرى . وساهم بالكتابة في هذا الملف عدد من الباحثين الروس , ومن بينهم لاكشين , الذي انهى دراسته الاولية في القسم الروسي بكلية الفيلولوجيا في جامعة موسكو عام 1955 , والتحق بقسم الدراسات العليا في نفس القسم والجامعة بعدئذ , وحصل على شهادة الكانديدات ( دكتوراه فلسفة) عام 1962. وكل تلك الوقائع تعني , ان لاكشين كتب مقالته تلك في مجلة (قضايا الادب) عندما كان طالب دراسات عليا و في السنة الاولى من دراسته ليس الا . عنوان المقالة هو – الارث الفني لتشيخوف اليوم , وتشغل 19 صفحة من المجلة المذكورة , وهي مقالة واسعة وشاملة, وتتضمن نظرة دقيقة على كل ابداع تشيخوف من قصص ومسرحيات , وهي بالتالي خطوة جريئة فعلا من قبل باحث شاب لم يكن يمتلك بعد الخبرة والتجربة في عالم الكتابة الجميل والشائك في آن . الانطباع الاول عن هذه المقالة هو شجاعة لاكشين الادبية , اذ قرر طالب الدراسات العليا ان يكتب في مجلة بمستوى ( قضايا الادب ) عن (كل تشيخوف !) رأسا , وهي خطوة يقدم عليها فقط الشباب الشجاع والذي لا يأخذ بنظر الاعتبار – وكما يجب – بالنتائج النهائية لعمله , والانطباع الثاني , هو ان لاكشين قد نجح فعلا في خطوته الشجاعة تلك نجاحا علميا باهرا .
الافكار الاساسية في تلك المقالة انعكست لاحقا وبشكل واسع في كتاب لاكشين – ( تولستوي وتشيخوف ) , وهي موضوع اطروحته آنذاك في دراسته العليا , ولا يمكن طبعا تلخيص هذه الافكار في عدة أسطر , ولكننا نريد ان نتوقف عند جملة واحدة منتقاة من تلك المقالة, والجملة هذه هي مثل نموذجي يمكن – من وجهة نظرنا – ان تعبّر عن طرافة النظرة العلمية للباحث تجاه ابداع تشيخوف , مثل يبيّن كيف ان لاكشين نجح برسم الخصائص الاساسية لهذا الابداع . الجملة هذه وتعليقاتنا عليها هي كالآتي –
(… كان باستطاعة تشيخوف ان يرسم اللوحة بضربة واحدة … ) . هذه الجملة التي كتبها لاكشين عن تشيخوف بحد ذاتها تعني , ان هذا الباحث قد فهم – وبعمق- كل خصائص تشيخوف الفنية وقيمته الجمالية وكل الاجواء الجديدة التي ارتبطت باسمه في تاريخ الادب الروسي , فأي كاتب روسي آخر يقدر ان يرسم لوحة كاملة بحركة واحدة من فرشاته , التي تحمل كل تلك الالوان الزاهية ؟ ان قصصه القصيرة , والتي قال له عندها محررو بعض المجلات الروسية وهم يرفضون نشرها , انها ( أقصر من منقار الطير ) حسب ما كتب تشيخوف نفسه بعدئذ , هذه القصص القصيرة لازالت معروفة في روسيا وخارجها , مثل الموظف الذي عطس في المسرح وتوفي نتيجة ذلك , والذي أصبح الان رمزا من رموز الهلع التراجيدي للانسان المسحوق اجتماعيا وفي كل زمان و مكان رغم انه لم يرتكب اي ذنب. لقد تحوّلت جملة كتبها تشيخوف في احدى رسائله مرّة الى قول روسي مشهور , بل و الى مثل من الامثال الروسية , و ترجمتها الحرفية هي – ( الايجاز شقيق العبقرية ) , وهناك اجتهادات اخرى متنوعة لترجمة هذا القول , الا انها خارج اطار مقالتنا طبعا. , جملة تشيخوف هي في الواقع تعبير دقيق يتناغم فعلا مع كل ابداعه , وهذه الجملة تذكرنا بمثلنا العربي – ( خير الكلام ما قل ودل) طبعا , الا انها تبقى جملة تشيخوفية بامتياز.
لاكشين ودوره في ( تحرير!) تشيخوف من ( الشوائب ) التي أحاطت به يتطلب التعمق بدراسة كتابات هذه الباحث الكبير…