افرز انتشار التعليم ووسائل الاعلام كالصحف والمجلات والراديو والتلفزيون خلال العهد الملكي وبدايات العهد الجمهوري الى تشكل مجتمع طليعي من المثقفين والمفكرين والكتاب . ولكن بسبب طبيعة المجتمع العراقي وبداية تشكل الذات الاجتماعية المستقلة للمجتمع الحديث اعتقد الكثير من افراد هذا المجتمع الطليعي أن الانتماء الى الأحزاب بأشكالها التقليدية في تلك الفترات من قومية وماركسية او يسارية هو جزء طبيعي من التشكل الثقافي للفرد والمجتمع. المشكلة في العراق أن الصراع على السلطة هو المحرك الطبيعي للأحزاب السياسية ,وكون اغلبها ذات ايديولوجيات مستوردة من الخارج وليست ذاتية الظهور وليست مستقلة فكريا ,ادى ذلك الى دخول الكثير من المثقفين والمبدعين في لجة الصراع السياسي ,مما أدى الى دخولهم سجون الأنظمة المختلفة او مطاردتهم او هروبهم او تغييبهم اواغتيالهم .هذا التطور أدى الى تمييع القضية الثقافية العراقية وعدم بناء طبقة ثقافية متماسكة تمثل الثقافة بغض النظر عن طبيعة الحكم والايديولوجيات الحاكمة. ولتكون الصورة اكثر وضوحا ,يمكن المقارنة بين الطبقة الثقافية في مصر والعراق لنرى الاختلاف في التماسك حيث الطبقة الثقافية في مصر قادها الاكاديميون غير المؤدلجين مما أدى الى صمودها تجاه جميع الظروف التي مر بها المجتمع المصري .كان المطلوب هو تشكل طبقة متماسكة من المتعلمين المثقفين والاكاديميين والمفكرين والباحثين في مختلف الشؤون الاجتماعية والاقتصادية والأدبية والتاريخية والسياسية وغير مؤدلجبن ليكونوا في منأى عن صراعات الانقلابيين من العسكريين والحزبيين ويستقلوا بالحراك الثقافي عن الحراك السياسي بشكل او بأخر و ليقودوا الحركة الفكرية والثقافية والأدبية في العراق ويشكلوا واجهة ثقافية متماسكة للبلد . ولبيان اهمية ذلك فأننا لانستطيع ان نشخص أسماء في التأريخ الثقافي العراقي الا ونضع امام الاسم الانتماء السياسي والايديولوجي وخصوصا من اليساريين الذين سحقتهم الأنظمة القومية اي أن الانتماء السياسي كان معروفا ومشخصا للمثقفين والمبدعين على مستوى الجمهور فكيف بالانظمة الحاكمة التي كانت تعتبر الانتماء للاحزاب المنافسة سببا كافيا للتنكيل والاستهداف للمثقف والمبدع .ومع أن العراق كمصر له تراكم حضاري تأريخي , فأنه خرج في بداية القرن العشرين من فترة مظلمة اتسمت بالجفاف الثقافي ,حيث بقيت الأرض الثقافية العراقية جرداء دون أي نمو ابداعي على مدى قرون, ومنذ سقوط الدولة العباسية وحتى الحكم الملكي ودخول العراق العصر الحديث .وكان الجهل والمرض والفقر هو الذي يسيطر على حياة الناس, وبالمقارنة مع مصر وسوريا ولبنان كبلدان ذات حياة مدينية وخصوصا في المدن الرئيسية (وليست بدوية اوقروية كما في دول اخرى )فأن بروز الحركة الثقافية فيها سبق العراق بما يقارب القرن , مع الاخذ بنظر الاعتبار حجم المنتج الابداعي وعدد الاسماء المبدعة بالنسبة لعدد السكان .واذا قيل ان الشعر في العراق هو الابرزعلى المستوى العربي وهو المسيطر على الحركة الثقافية ومن خلال الأصوات الشعرية البارزة التي ظهرت ,فنقول وبناءا على طبيعة العراق والمنطقة فان الشعر هو ليس منتجا ثقافيا خالصا ,بقدرما هو منتج ابداعي فطري تراثي فلكلوري ,ناتج من طبيعة المجتمع وقسوة الحياة فالشعر هو المعبر الوحيد عن المعاناة كما الحكايات والامثلة وهو سليقي التكون وملازم للحياة ومن مفرزاتها بجميع اشكالها البدوية والقروية والمدنية ,ويمكن ان ينمو في كل الظروف وحتى في الصحراء كما تنمو نباتات مفيدة ولكن فطرية كالكمأ وبعض الأعشاب والزهور البرية .ولذا بقي الشعر موجودا ومسجلا في جميع العهود التي مرت على البلد .اما المنتج الثقافي الاكثر تعقيدا كالقصة والرواية والمقالة والنقد والبحث والموسيقى والرسم والنحت والتمثيل فتحتاج حياة مرفهة وناعمة لتنمو لانها بحاجة الى رعاية وبيئة ثقافية ساندة وتعليم وتدريب وتواصل .بقي الشعر هو الممثل الرئيسي الذي يتفرد ويستولي على الساحة الثقافية العراقية مع ظهور اعمال أدبية وفنية قليلة مبدعة بشكل لا يمثل ظاهرة وانما اعمال فردية .كما لم يتشكل اعلام وطني رصين ومتماسك وصحف ثابتة بل كان كل انقلاب يأتي بصحفه واسمائه ليستبدلها الذي يأتي بعده بصحف أخرى تمثله. حيث كانت الصحف مرتبطة بالاحزاب او بالحكومات ولم نرى صحفا وطنية مستمرة كما في مصر كالاهرام واخباراليوم و روز اليوسف والهلال صدرت واستمرت مع مجيء وذهاب الحكومات وفي مصر يسمونها الصحف القومية أي الوطنية كما نسميها نحن. وحتى الأسماء الشعرية التي برزت وشكلت ظاهرة ,لم تستطع مقاومة ظروف الحياة القاسية التي يسيطر عليها العسكر والسياسيون المؤدلجون والأحزاب التي هي اقرب الى العصابات, والتي تتخذ من العنف سلوكا للوصول الى السلطة ولاتؤمن بالعمل السياسي الا من خلال تسلط العنف او عنف السلطة ,وحتى هذه الأصوات اضطرت الى الهجرة او الابتعاد عن الواجهة او الانصراف عن الثقافة والاعلام ,او جُرت او استدرجت الى أحضان الأنظمة ,او اضطرت ان تكون واجهة من واجهات السلطة إعلاميا وثقافيا . فالسياسيون والاحزاب والحكومات تحتاج الى واجهات ثقافية وإعلامية دائما واضطرت هذه الاصوات ان تتحول الى ابواق منافقة وتم تمييع المواهب في كتابات واعمال سخيفة غير إبداعية ملفقة لتلميع صور الأنظمة السياسية والأشخاص ,اما تحت الضغط والخوف او لغرض الاستفادة او بسبب طبيعة الشخص الذيلية أي انه لا يستطيع الا ان يكون ذيلا ثقافيا لمن يدفع له او يحميه او يعطيه النفوذ .الادب الروائي والمسرحي والفنون الموسيقية تحتاج الى بيئة راعية وتراث متجذر لكي ينمو والدراسات والبحوث الأدبية تحتاج الى بيئة علمية وحرية فكرية وفهم من قبل الحكومات لطبيعة هذه الدراسات لكي تستطيع ان تنتعش وتتنفس وتحرك الأجواء الادبية والعلمية والثقافية للبلد . لذا ارتبطت الاعمال الإبداعية التي ظهرت في هذه المجالات بالفترات الانتقالية والتي اتسمت بالحرية النسبية التي تسودها ولفترات قصيرة ثم انقطعت واسوأ فترة مرت على العراق هي فترة الثمانينات والتسعينات وفترة الصراع الطائفي بعد الاحتلال الأمريكي حيث ساد المجتمع فترة من الركود الثقافي وكاد المشهد الثقافي يموت ونقرأ عليه الفاتحة حيث نضبت الاعمال الثقافية واعتمد المجتمع في روحه الثقافية على موروثه السابق الذي كان يسترجعه ويتغنى به كلما افتقد الاعمال الإبداعية الجديدة .في المجتمعات المستقرة يتسم المشهد الثقافي بالتواصل ويفترض ان يكون المشهد الثقافي متواصلا ويعكس التغيرات في المجتمع و تكون النتاجات الثقافية والأدبية وليدة المتغيرات والمعاناة في أي مرحلة زمنية ,خصوصا الاعمال الابداعية الاكثر تعقيدا والاصيلة والمتواصلة كمشاريع ثقافية لمبدعين كبار فقد نجد كاتبا كتب كتابا او باحثا انتج بحثا او دراسة واحدة او اثنتين ولكن لا نجد غزارة انتاج كنجيب محفوظ او توفيق الحكيم او يوسف ادريس او قبلهم طه حسين .في مصر تجد المشهد الثقافي وفي احلك الظروف مليئا بالاسماء والاعمال الابداعية الغزيرة, ونرى الحراك الثقافي مستمرا يسلط عليه الاعلام اضواءه ,والذي يشكل صالة كبيرة لتعزيز دور الثقافة من خلال اللقاءات والمناقشات اليومية المفتوحة بين الكتاب والعلماء والباحثين والادباء ,وفيما بينهم من جهة ومع الجمهور والمحبين من جهة أخرى .كما أن ترشح مفاهيم ثقافية وصنعة ثقافية على المشهد الثقافي كانت دائما تعززه أجيال من المبتدئين والمريدين والهواة والمحبين تتربى على ايدي الأجيال المتتالية ودائما ما تنتج اديبا هنا وباحثا هناك يخرج من تحت عباءة كبيرة ليطرح انتاجه ,والساحة المصرية مليئة بهذه القصص للتبني والمصاحبة الثقافية والأدبية .كما ان الإنتاج الثقافي والابداعي دائما ما تدعمه السينما والمسرح والتلفزيون لتحوله الى منتج جماهيري استهلاكي ربحي ذي عائد مادي على المبدع مما يحوله من هاوي الى محترف يمتهن الابداع والانتاج الثقافي والادبي ويتفرغ له لأنه يغنيه عن الوظيفة الحكومية او المهن الاخرى.قلما استطاع مبدع ادبي اوثقافي عراقي أن يحول ابداعه الى مهنة يستطيع أن يعتمد عليها في معيشته ويوفر له ترفا معيشيا كمبدع .