17 نوفمبر، 2024 8:49 م
Search
Close this search box.

مقاربة لثيمة الوجع في مجموعة قاسم والي (تراتيل أوروك)

مقاربة لثيمة الوجع في مجموعة قاسم والي (تراتيل أوروك)

قصائد قاسم والي تشبهه ، تشبه نظراته، تشبه الدروب والطرقات ووجوه الطغاة المستلقية على أرصفة ذاكرته الطفولية المتيمة بالعوالم.
انفجر شعره في محرقة قدرت مقاديرها في مراحل التاريخ، وحملتها الأبالسة لشواطئ الصحراء، إلى حيث يكون، يُستهدى بهِ اليهِ، في رحلة البحث عن الشمس بعد كسوف الوطن. حين تخمر الطين ..انسكب بسحره، واستعان بعكاز الموروث القبائلي والديني، واستغرق بالالتهاب في أتون الروح، وقال مقالته..في مرحلته هو ، التي هي مرحلة الوطن الأبدية. وتماهى مع الألم الشرقي المعجون بالطين والضوء والعذابات المترعة، بمرأى من الجبال والسهول المغتسلة بعطر الدم والمطر والغيم والذاكرة، وصورة الجلاد مازالت تتقد بالشرر!
الملفت أن الطبع ليس كالتطبع ولكنَّ شاعرنا الذي خلط الرحيق والأزهار في بوتقة المرايا الخاوية وفار التنور على لوعته وغياب أمله بستر العورات التاريخية..ولهذا تأتي رموزه التاريخية مجتمعة (الحسين والشمر بن ذي الجوشن)..
نعم لقد أحرق الغبار في قصائد عديدة، وأعطى فسحة التأمل في الفجيعة..فجيعة الموشور الواحد لألوان الجغرافيات والتواريخ الكثيرة!
لا نكاد نرى سيرته، وأهمل الأنا الا عندما استعارها (أنا جماعية) في قصائد الوطن والموت والدم وكربلاء!!
في كلِّ يومٍ نبصرُ الحجاج َ والشمرَ اللعينَ وحرملةْ
نروي مقاتلنا إذا نروي الحسينَ بكربلاءَ ومقتلهْ
نبكي علينا حينَ نبكيهِ فتذرفنا العيونُ المُمحلةْ   (سلالةُ الخوف)
لقد نهض قاسم والي بذائقتنا الشعرية وحتى السياسية لنتلمس الجمال في الوطن والعدل والقيم النبيلة وأراد ببساطة أن يعيد تأهيل متلقيه ليسمو على الغريزة الإفتراسية وان يعترف بحرية الآخر ليكون حرا وأبتعد عن (الديماغوجية) والشعارية ولم يستجدي أحداً ليسمعه.
ربّاه..ليتَ القلبَ يقبلُ صيغةً للشوكِ مثلَ قرنفلةْ!! (سلالةُ الخوف)
ويعزز قدرة المتلقي بعنف مضاد في حال الشعور بالتهاون:
أخشى إذا أنهيتُ سيلَ تدفقي هذا ..سأصبحُ قنبلة!! (سلالةُ الخوف)
تنقسم تراتيل قاسم والي بناءً على طريقة كتابتها إلى اثني عشر نصّاً عمودياً وثماني نصوص(قصائد نثر)وثمانٍ أخرى قصائد تفعيلة،وجلُّ النصوص كتبت في الأعوام اللاحقة على العام 2003 وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن اشتغالات الشاعر السابقة!!
لا يمكنني أن أحدد انتماء قاسم والي المنهجي والأسلوبي إلى مدرسة بعينها فالرومانسية والواقعية والتجريدية وحتى الدأدائية يمكن أن تتلمسها فيه فهو يشبه الكثيرين ولا يشبه أحداً في ذات الوقت !. رغم أنه ظل وفيا لكل الحشد المتجاوز من الشعراء وعلى مرور الأزمنة منذ الجاهليين إلى الأمويين والعباسيين والمعاصرين ، فهو مهووس برصانة الجملة لدى كل هؤلاء ونزق الفكرة لديه .
قاسم والي المسكون بالهواجس  : هاجس الوطن المهيمن المأساوي الغرائبي ،إذ أن هناك خلطا في الصور الشعرية يمكننا معا أن نسمي المرأة الحبيبة بغداد  وبغداد المراة الحبيبة بالتصاق وجناس جديد:
قالوا هو الحبُّ ..قلنا إنهُ الحبُّ                       فبينَ قلبي وقلبي يخفقُ القلبُ
لغادةٍ شفّها الإحساسُ راقصةٍ                   على ضفافي التي أودى بها الجَدْبُ
………………………………………………………………………………
أحبها منذُ ماء اللهِ خالطهُ                        لدى ابتدائي عليها ذلكَ التُربُ
………………………………………………………………………..
بغدادُ تلك التي تحيا على وَجَلٍ              فكلّما اجتازَ خطبٌ مسّها خطبُ
                                                                     (بغداد حبيبتي) 
ويؤكد ما ذهبنا اليه أن تناول الشاعر في غزلياته بالمرأة لا ينفك أبدا عن الوطن ففي ( للوطن ولها ثلاث مقاطع) ومنذ العنوان نرى الارتباط القوي بين المرأة والوطن عند الشاعر وفي ( لصديقتي ليس للنشر ) و(اختلاسات الكهولة ) نلحظ شذوذا ظاهريا عن هذا المسار يخلصنا منه التأويل الباطني
ولأن اعتقادا سائداً اليوم لدى بعض المفكرين ومن توجهات شتى أن لسيادة وهيمنة ( الميديا) بكل أشكالها من صحف وإذاعات وقنوات تلفزية وشبكة (انترنت)  قد ساهمت بتهشيم موروثات وقيم ومعرفيات إلى أشكال ومبان وتوجهات جديدة رجراجة ومتحركة بسرع مختلفة ، اعتقد أن الشاعر يتمترس الآن ليحفز ذاكرته وذاكرة  الآخرين باللغة التي لا تشبه إلا لغته هو ( اعني الأنساق البيانية الخاصة به) ليقول :
أنا آخرُ الخيباتِ والنكباتِ والقصصِ القصارِ المهملة
الى قوله :
أنا حيرةُ الآتينَ والماضينَ معضلتي بأني مُعضلة  (سلالة الخوف)
وفي قصيدته (بَــــوح) يعالج الشاعر العديد من الجدليات منها الوصاية التي يفرضها الحاكم أو رجل الكهنوت والمصادرة المطلقة لفكر ورأي وحتى مشاعر ما يعتبره الاثنان قطيعا غبيا يمكن معه ممارسة التزييف والتحريف وصولا إلى العنف المفرط لإبقائه قطيعا منساقاً وحسب، أنظر الى قولهِ:
هنا تواريخُ أسلافي مخضبةٌ               البائعونَ دمي باعوا بلا ثَمَنِ
يا أيها الوطنُ المقتولُ مُذ قتلوا      فيكَ الحسينَ وباعوا طيبةَ الحَسَنِ
لقد استخدم الموروث بحذر جريء ! وليقول في آخر البوح:
ليلتقِ اللهَ مَنْ تمّتْ طهارتهُ             وتنتهي هاهنا أسطورةُ الوَثنِ
                                                                    (بوح)
هناك( شيفرات) في كل قصائد المجموعة تحتاج فعلا إلى ناقد خبير لفك الطلاسم والتراكيب المنضوية تحت الإيماءات والبوح بل تحت اللظى والكشف عن سبب  إحداثها للزوابع في المشهدين الشعريين السماوي والعراقي ومن دون أن يكترث هو إلى ذلك أبدا ، ففي (المتوارية خلف أصابعها) نلحظُ نصا الكترونيا بامتياز حيث يوظف فكرة اللقاء في العالم الافتراضي لينتج نصا لا يسقط في الافتراض المحض، يقول جاك دريدا: إن الميثولوجيا التي يجمعها شعر الميتافيزيقيا الكئيب -إذا سلمنا بان تحسسنا صحيحا – يسحبُ عنه المعنى
يقول قاسم والي في (المتوارية………….)
الشاعرةُ المتواريةُ خلف أصابعها 
المتجردةُ أكثرُ استتاراً 
ليتني أنا 
المسكونُ باللعنةِ
أجيدُ الافتضاح
يا لصهيل شراييني
مفتقراً للعربدةِ
ينتابني عهرُ الكلمات
وفي مقطع آخر :
الأمرُ مختلفٌ جداً
بينَ أنْ أمسكَ النبوءةَ َ
أو تنتصبَ بينَ إصبعيَّ
إقحوانتان !!!
وفي ( التمادي بالتمادي ) و(قالت لي…قلت لها) نكتشف بحث الشاعر بلا هوادة عن الأجوبة للاسئلة الوجودية الملحة داخل الذات الإنسانية المحتدمة بالاسئلة ، وفي ( الصبيات يترنحن عند السطور الأولى) وفي ( الجمل الإسمية) ايضا نسير مع محنة الشاعر أي شاعر والشعور باللاجدوى الطاغي أحيانا ، هذه نصوص هامة بحاجة للتفكيك لاكتشاف كيف يكون الإبتهاج بالشعر والشعور بالمرارة منه ايضا ، وبالحياة ومنها في نفس الوقت.
السرائرُ التي لا تنسفحُ إلا على الارتعاشات
تختزلها واحدة ٌ ما
الشيطانُ ذاتُهُ يعترفُ بالتلصص
الغواياتُ تطارد الكهولة َ المتأخرة
الارتطاماتُ الأخيرة للأشجار بالهوّةِ السحيقة
غيرَ معترفٍ بالنكوص أستخدمُ البذاءة
الحسدُ آخرُ موبقاتي
سأحاولُ التخلصَ من الجُمُلِ الاسمية
ينتابني الشعورُ باللاجدوى(الجمل الاسمية)
ومنها أيضا:
السوادُ العشوائي الذي فوقَ إسمي
تحتَ مختلف التأثيرات
جاء هكذا
ولأنني غيرُ مهتمٍّ بالشروح
سوفَ ابتهجُ لعدم الإصغاءْ( الجمل الإسمية)
ومن (التمادي بالتمادي) نقتبس:
لمَ لا تنزلقُ الأفكارُ على لزوجةِ الورقة
لمَ يتصاعدُ سخامُ الارتيابِ
إلى حَدِّ تكديرِ صفوِ السماوات
مُستفَزٌّ أنا
الاحتراقاتُ تتأججُ عندَ بوّابةِ قلبي
لستُ مجنوناً لأني لا أطلقُ الضحكات
ولا عاقلاً لافتقادِ التجهّم
كما أنني لا اشعرُ بالحيادِ تجاهَ الكون
كتلة ٌمن الهواجسِ
لا تتيحُ التصنيف(التمادي بالتمادي)
لا يمكنني التسليم بان قاسم والي عبر عن ذات متشائمة أو انه اغفل الجمال في الموجودات الحسية والمجردة، لكنه ببساطة دفع بالتراتيل الباكية المعفرة بالدم والدمع ليدافع عن وطن أراد البعض أن يحمله في حقائب السفر،  فلم تفح أية رائحة للتخندق من أي نوع فيها ،لأنه ببساطة أيضا يدافع عن الخندق الوحيد الذي لجأ إليه والذي يحبه نقيا ساطعا طيبا، ينتمي اليه بحميمية، ولكنَّ الحزنَ البادي لا يُخفي الرقة والعذوبة،ورقة التراتيل تتوهج في القصيدة التي تحمل العنوان ذاته الذي حملته المجموعة (تراتيل أوروك)
الآنَ تنطلقُ القصائدُ يا عراقُ وأحرفي كالماءِ ملءَ جداولي تنسابُ
فلَكَمْ كتبتُ مرمّزاً شعري….  وكـــــانَ يُخيفني صوتي وكنتُ أهابُ
واهٍ.. كما الورقِ الرقيقِ بأضــــــــلعيْ قلبيْ .فبينَ المنصتينَ ذئابُ
أخشى على أمّي.. تراكضَ قلبُـــها..   فزعاً عليّ َإذا تُدَقّ ُ البابُ
الآنَ يا وطني وملء فمي جرى    صوتي وأسئلتي  وأنتَ جوابُ
وللألتصاق بأوروك التي لم يخرج من جلبابها  أبداً يضيف:
 يا أوّلَ الكلماتِ.. يا أوروكْ، يا عشتارُ،   مــــنْ اثوابِ أنكيدو عليكِ ثيابُ
للآن تُربكك ِ التفاصيلُ التي كثًرَتْ.وما فتئتْ.  تضيعُ على المدى أسبابُ
للآن.. والأفعى تغادرُ خلســـــــــة ًجُحْراً..لتسرقَ عشبة ً فيُفاجَأُ ُالعشّابُ
وليكون في غاية الرقة بحيث لا يحمل الوطن ما لا يحتمله الوطن بوصفه كائنا (مؤنسناً) ليحمل هو الجريرة كلها والجَلْدَ أيضاً أعني الشاعر ، يختتمها بالأبيات التالية:
يا بعضَ ما بيْ منْ همومِ قبيلتيْ..كُفـّي!  فقدْ غطـّى المُصـــــابَ مصابُ
الماءُ يسبقُ بالرحيلِ الطينَ………حتـّى يستشــيطََ َ على الوجوهِ سرابُ
جفّتْ على الضفتين أعواديْ. وقامَ مُهمهماً يشكو إلى ريحِ الجنوبِ ترابُ
مصلوبةٌ ٌعيناهُ.. في الآفاق منتظراً..لعلّ سحابة ًتأتيْ…..  وضاعَ سحابُ  
الآن أدركُ تمتمات أبيْ..التي ضاعتْ.. ولمْ يحفظْ صدى ترتيلهِ المحرابُ
الآن أقمعُ رغبتي…..  بالماءِ…  إنّ َ غبارَ آفاقِ العراقِ ويابسَيهِ شرابُ
الآن يا وطني ستجلدُني تراتيــــــــــــــلي أحسُُّ بأنني ذنبٌ وأنتَ عقابُ
كما أن شعره في باب الرثاء كما في مرثياته لصديقه (حميد رضا) او (الجواهري) لا تحمل بكائية الرثاء بل تحمل التساؤل الوجودي ذاته عن طبيعة الموت ، وهي أكثر وضوحا في قصيدتيه(النجوم تستدعي زهير الحوراني) التي يرثي بها الشاعر الشاب الراحل زهير الحوراني و(تفاصيل ) التي يؤبن بها الكاتب والفنان الراحل( شاكر رزيج)كما أن قصيدته (يحيى السماوي..المحيط الصاخب) المهداة إلى أستاذه وصديقه الشاعر(يحيى السماوي)، لا تبدو قصيدة إخوانية نمطية بل هي نص مشبع بالتساؤل بين ال(هنا) التي يكتوي بها قاسم والي وال(هناك) التي يرزح تحتها يحيى السماوي .
 
لقاسم والي معجمه الخاص وقاموسه الواسع والملاحظة الأغرب أن الكلمات
 التي في غاية الوضوح الملقاة أمامنا دائما يستخدمها قاسم والي لإدهاشنا بقدرة البساطة والوضوح على الإدهاش كما في اشتغاله على الزمكان في قصيدته الموسومة (بأي قمصانك الحمراء تغمرهم):
جاءوا.. وصلتَ، فلمّأ جئتهم..وصلوا…….أنتَ أنشغلتَ بهم أمْ همْ بكَ انشغلوا
وقفتَ! لا! لم تقفْ، حلّقتَ مرتفعا               هلْ حلّقوا مثلما حلّقتَ أمْ نزلوا
بأيِّ قمصانكَ الحمراء تغمرهمْ               همُ الخطايا التي قمصانها الخجلُ
جاءوكَ من فرط ما همْ فيهِ أمكنة             مسيرة ً يعتريها اليأسُ و الأملُ
بأيِّ قمصانكَ الحمراء تغمرهم              همُ الخطايا التي قمصانها الخجلُ
الى قوله:
من كفِّكَ النازفِ المبتورِ إصبعها            دمٌ الى الآن في الأرجاءِ يشتعلُ
وكربلاءُ التي لم تنطبقْ وسَناً                  أجفانُها منذُ عاشوراءَ تبتهلُ
تلك قراءتي لتراتيل قاسم والي أتحملها لوحدي فهي تبقى قراءة شخصية ارتكزت على ثيمة الوجع في نصوص التراتيل ..الوجع الجميل!!! أليس كذلك؟

أحدث المقالات