السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر قدس سره كان منعطفا في حركة التشيع عموما ، والتشيع في العراق خصوصا . وقد أنتجت حركته الرسالية نهضة ، ذات بعدين ، احدهما ظاهري ، حيث الأخذ بيد الأمة عموما نحو الأهداف الاسلامية ، من خلال آليات العمل الاسلامي المعاصر ، والآخر بعد باطني ، استهدف الانتقال بالأفراد والمؤسسات الى مستوى أخلاقي ومعنوي ، يكون صالحا لاستقبال دولة العدل الالهي ، والخروج من ظلمات المادية البحتة .
ان البعد الثاني – المعنوي – كان علاجا واقعيا ، وذكيا ، وعميقا ، لمشكلة الأمة الاسلامية ، من حيث الجذور ، لا من حيث الظاهر الخارجي .
ان مشكلة الأمة لم تكن معرفية بحتة ، ولم تكن سياسية بحتة ، ولم تكن اقتصادية بحتة ، كما انها لم تكن نقصا في التنظير والمشاريع ، بل انها مشكلة في الإيمان الحقيقي ، وفي الالتزام الأخلاقي ، وفي الطاعة للمولى الحق ، ومن ثم كان هناك سير باتجاه الانهيار ، لولا رحمة الله بوجود المصلحين المخلصين ، والذين كان الشهيد الصدر من قممهم العالية ، ومن أوليائهم العارفين والمحققين .
ومن اهم التشخيصات التي وضع الشهيد الصدر اليد عليها كانت مشكلة القيادة الاسلامية . حيث كانت القيادات في الغالب مادية المنحى والأداة ، تتجه نحو السكون والركون ، لقلة الكفاءة ، وقلة الوعي الديني الحقيقي . بل ان الدين اصبح اكثر أستسلاما للواقع الفاسد ، بدل ان يصبح الواقع متأثرا بالمنهج الديني الإصلاحي السامي . وكل ذلك ناشئ عن وجود قيادات فاقدة لشروط القيادة الربانية .
من هنا وضع الشهيد الصدر – قدس الله نفسه الزكية – مجموعة من الشروط ، او الخصائص ، الواجب توفرها في القيادات الاسلامية . ويمكننا تعيين بعضها ، من خلال الاطلاع على مجموعة من كلماته وخطبه وكتاباته قدس سره . ولعل من أهمها :
١ – الاجتهاد :
وهو – بحسب بعض العلماء – بذل الجهد في تحصيل الأحكام الشرعية ، من مصادرها ، والسعي في إقامة الحجة عليها .
والأمر فيه – كما هو واضح – ليس بسيطا هينا ، بل يحتاج الى العناء والتحصيل والصبر . كما انه يحتاج الى توفيق من الله جل وعلا . ومن لوازم الوصول الى مرتبة الاجتهاد سعة الاطلاع على المصادر ، والإحاطة بعلوم الرجال والأصول وغيرها ، وفهم التاريخ ، ومعرفة الآراء المختلفة ، كما ان الاطلاع على العلوم الحديثة الانسانية بات مهما جداً في تمامية عمل المجتهد . والسيد الشهيد الصدر يرى ان الاجتهاد – على عظمة أمره – هو الدرجة الاولى في خصائص القائد ، وكلل من دون درجة الاجتهاد فليس له ان يتصدى لقيادة الناس ، مهما بلغ من فضل .
٢ – العدل :
العدالة – نقلا عن بعض المصادر الفقهية – هي الاستقامة العملية في جادة الشريعة المقدسة الناشئة غالباً عن خوف راسخ في النفس، وينافيها ترك واجب أو فعل حرام من دون مؤمّن شرعي .
وكما هو ظاهر ان الاستقامة المهمة هي العملية ، لا النظرية ، الاستقامة الحقيقية ، التي تكون مرضية للمطلع على ما تخفي الصدور . وهذا ما يقصده الشهيد الصدر من مستوى العدالة . وهي في المرجع القائد يجب ان تكون بمستوى التربية العلوية ، حيث الإنصاف ، ومراقبة الله في كل نفس وحركة وسكون . بمعنى إلّا نكتفي بالقول ان فلانا عادلا لانه لم يظهر منه ما يؤذي الآخرين ، لان هذا مستوى العامة من العدالة ، بل يجب ان يكون العدل في القائد بنائيا ، متحركا ، لوضع كل شيء في موضعه .
٣ – طيبة القلب :
ان القلب المقصود عند الشهيد الصدر في كلماته هو ذلك القلب القراني ، ( أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَتِي فِي الصُّدُورِ ) . ولما كان القلب القراني تعقليا فلزوم الطيبة له يكون من سنخ الرحمة ، كما ان عماه يعني خلافها . وبالتالي لابد للقائد ان يكون ذا قلب رحيم .
ومن جميل ما عرّف بعضهم طيبة القلب : نعني بالطيبة سلامة الصدر، وصفاء النفس، ورقّة القلب ، ويتأصل هذا الخلق باستمرار التزكية للنفس، ثم تنعكس آثاره على السلوك ، أخوةً وسماحةً وسكينةً ووفاءً. والذين يفتقدون هذا الخلق ، تراهم غارقين في صور من التحايل والكيد ، وسوء الظن والخبث .
٤ – الاعلمية :
وهي عند الشهيد الصدر : ( … صفة من كان أقوى في الملكة وأدق في النظر والاستدلال . ولا دخل لسعة الاطلاع على المصادر في ذلك ) .
وفي مصدر اخر : ( ويراد بها أن يكون واحد ممن اتصف بالاجتهاد المطلق أو أكثر يتصف بدقة في النظر وسداد في الرأي وسعة في الاطلاع أكثر من غيره ) .
وعليه فان مقصود الشهيد الصدر قدس سره من الاعلمية هو العمق الفكري ، والآلة الذهنية القوية ، والقدرة العقلية العالية ، في فهم المطلوب ، وإدراك المراد .
وسنرى لاحقا ان لخصوصية المدرسة ، وتاريخها ، وبيئتها ، دخلا كبيرا في تشييد العقل الفقهي الأقدر على استنباط الحكم الشرعي . بل ان للبعد الاجتماعي وتأثره بوهج المعصومين عليهم السلام مدخلا واسعا في ذلك .
٥ – المباشرة الميدانية :
وهي من اهم خصائص القيادة الصالحة ، ومن عوامل النجاح الرئيسية . حيث لابد ان يكون القائد – لا سيما الديني – بين الناس ، عارفاً ومطلعا على أحوالهم وشوونهم ، مدركا لظاهرهم وباطنهم ، ومتلمسا لواقعهم ومحيطهم . وهم كذلك مطلعون على إمكاناته وخصائصه ، وقدرته الميدانية .
والقائد يعيش مع الأمة واقعها ، حلوه ومره ، ومشخص لمشاكلها ، وملتفت لما تعانيه وما تملكه . ثم ان الناس حين تعيش مع القائد ويعيش معهم سوف يكونون اكثر عزما ، وأكثر همة ، وأعمق فهما .
والتاريخ يحدثنا كيف ان أولي العزم من الأنبياء كانوا يسيرون مع مجتمعاتهم ، خطوة بخطوة ، ويعانون معها ما تعانيه ، فيكونون اول المتقدمين في كل نهضة للإصلاح . ولعل المباشرة الميدانية كانت اهم ما يميز علماء وفقهاء الإمامية ، منذ صدر الاسلام ، لولا ان استجدت على المرجعية والقيادة الدينية من المظاهر ، ما جعلها تنقسم بين مرجعية ميدانية شهيدة ، ومرجعية منعزلة .
( وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ ﴿84﴾ فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ﴿85﴾ وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ﴿86﴾ وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ﴿87﴾ وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ﴿88﴾ قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ﴿89﴾ ) .
٦ – القيادة الجماهيرية :
بمعنى ألّا يكون القائد نخبويا . بل هو قائد مصلح لكل طبقات الأمة وفئاتها ، يسير بسيرة المصطفى صلى الله عليه وآله ، حيث أنقذ الناس – كل الناس – من حيرة الضلالة الى سبيل الهدى والنور .
وقد خسرت حركة السيد الشهيد الصدر الاول كثيراً ، لانها اعتمدت – غالبا – على النخبة ، فخسر وهج العاطفة الحماسية . فكان للشهيد الصدر الثاني سيرة اخرى ، باتجاه الجماهير ، وبهم ، نحو الأهداف الاسلامية النبيلة ، لكن كان النخبة تعيش معه الشك والحيرة ، بسبب السهام التي كانت توجه ضده ، فخسر قدس سره بعض ما يحتاجه من حلقية وسطية ، كانت مهمة في نجاح مشروعه الرسالي . ومن ثم عمل وريث المدرسة الصدرية الشيخ محمد اليعقوبي – دام ظله وهنأني المولى بركات دعائه – على الاستفادة من مسيرة الشهيدين الصدرين ، حيث أوجد منهجا شريفا ، بالعمل على الارتفاع بجمهور الأمة عموما الى مستوى النخبة . ” وهو اصعب المطالب ، لمن يعي ” .
٧ – الترتيب والإصلاح :
حيث ركّز الشهيد الصدر على ضرورة ترتيب ونظم الأمور ، اذا ما أراد الشيعة النجاح في مشروعهم الإصلاحي . ولا إصلاح بلا ترتيب . لذلك دعا في بعض كلماته الى التمسك بالقيادة الأقدر على الترتيب .
يُنقل عن أمير المؤمنين عليه السلام في اخر وصيته : ( أوصيكما و جميع ولدي و أهل بيتي و من بلغهم كتابي هذا من المؤمنين بتقوى الله و نظم أمركم و صلاح ذات بينكم ) .
٨ – ليس ماكرا او طالب دنيا :
عندما اصبح للقيادة فهما مرتبطا بالبعد العلمي ، دون الأبعاد الاخرى ، الاجتماعية والأخلاقية ، ودون عرضها على السيرة التاريخية للقيادات الاسلامية الصالحة ، صار من المنطقي وصول شخصيات مختلفة ، تطلب الدنيا بالدين ، لما لمرتبة القيادة الدينية من شرف اجتماعي . وبال ضرورة سوف يدور في فلك هكذا قيادات مجاميع من الحواشي والمتملقون ، وباسم الله يعتاشون . ولما كانت الدنيا اكبر همهم ، فهم على استعداد – بما فيهم كبيرهم – ان يتركوا الناس في ردى الضلالة ، وصعوبة المعيشة وضنكها ، ما دامت معايشهم دارّة .
( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) .
( عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز وجل: ” فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ” قال: الرجل يعمل شيئا من الثواب لا يطلب به وجه الله إنما يطلب تزكيه الناس يشتهي أن يسمع به الناس، فهذا الذي أشرك بعبادة ربه، ثم قال: ما من عبد أسر خيرا فذهبت الأيام أبدا حتى يظهر الله له خيرا وما من عبد يسر شرا فذهبت الأيام أبدا حتى يظهر الله له شرا ).
وعنه عليه السلام منقولا : ( أبي عبدالله (عليه السلام) قال: طلبة العلم ثلاثة فاعرفهم بأعيانهم وصفاتهم: صنف يطلبه للجهل والمراء، وصنف يطلبه للاستطالة والختل، وصنف يطلبه للفقه والعقل، فصاحب الجهل والمراء موذ ممار متعرض للمقال في أندية الرجال بتذاكر العلم وصفة الحلم، قد تسربل بالخشوع وتخلى من الورع فدق الله من هذا خيشومه، وقطع منه حيزومه ، وصاحب الاستطالة والختل، ذو خب وملق، ويستطيل على مثله من أشباهه، ويتواضع للاغنياء، من دونه، فهو لحلوائهم هاضم، ولدينه حاطم، فأعمى الله على هذا خبره وقطع من آثار العلماء أثره، وصاحب الفقه والعقل ذو كآبة وحزن وسهر، قد تحنك في برنسه ، وقام الليل في حندسه، يعمل ويخشى وجلا داعيا مشفقا، مقبلا على شأنه، عارفا بأهل زمانه، مستوحشا من أوثق إخوانه، فشد الله من هذا أركانه، وأعطاه يوم القيامة أمانه. ) .
٩ – خبير :
الخُبراء هم ذوو الاختصاص الذين يعود لهم حقّ الاقتراح والتقدير ، كما جاء في بعض القواميس . نتاج ما مرّ به الشَّخص من أحداث أو رآه أو عاناه ، مجموع تجارب المرء وثقافته ومعرفته هي ما يمكن تسميته الخبرة ، وما يطلق على صاحبها الخبير .
ومن هنا يكون للسنين والممارسة والمباشرة والاطلاع دورا رئيسيا في ان يكون الشخص خبيرا . اما فيما يخص القائد ، والديني بالذات ، فلابد ان تكون خبرته ناشئة عن ثقافة ومعرفة وممارسة جماهيرية ، مرتبطة بالمعرفة الربانية ، وبمراد المعصوم ومشروعه ، وما ينفع هذا المشروع .
١٠ – ورع :
في قاموس المعاني : / ورَع الشَّخْصُ عن الإثم : ابتعد عن الإثم وكفّ عن الشُّبُهات والمعاصي على سبيل التَّقوى .
عن علي بن الحسين صلوات الله عليهما : ( الزهد عشرة أجزاء. أعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع، وأعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين، وأعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا ) .
١١ – الانتماء للمدرسة الإصلاحية الصدرية :
وهي مدرسة عميقة عريقة ، ورثت الخط الإصلاحي النهضوي في المرجعية ، وأبدعت فيه ، وأضافت اليه ، فصارت تحيط بما لم تحط به المدارس الاخرى المنعزلة والكلاسيكية .
كما انها أنتجت في المجالات المعرفية والفكرية والعلمية ، ما اصبح ركنا في عالم المعرفة ، وفقها وأصولا تُعد المدرسة الأمتن ، لما تمتع أساطينها به من قدرة ونباهة وملاحظة . ولعل اهم ما ميزها هو إحساسها العالي بمراد المعصوم ، وفهمها لسيرته .
وهي ليست مدرسة محصورة بمن حملت اسمه ، بل هي اليوم خلاصة جهود وحركة ودماء القادة المصلحين ، الذين عانوا في سبيل دفع الباطل عن مذهب الحق ، كما عانوا في مواجهة المتحجرين من المتزيين بزي الدين . لكنها حملت اليوم اسم علمين معاصرين ، كان لهما دورا رياديا ومشرفا في توجيه الحركة الإصلاحية الاسلامية وجهتها الحديثة . وينتمي لهذه المدرسة اليوم عدة من القادة المجتهدين ، والرجال العاملين ، والمؤسسات ألنهضوية الحركية الرسالية .
١٢ – المنصف :
إِنْصافُ الْمَظْلومِ : اِسْتِيفاؤُهُ حَقَّهُ ، أَيْ إِزالَةُ الظُّلْمِ عَنْهُ . كما جاء في المصادر . ولعلها من الصفات الشريفة في الناس ، وهي اشرف في القادة ، وأكثر شرفاً في القادة الدينيين .
والشهيد الصدر يدرك انها كذلك ، لكنه تناولها لعلمه بمخالفة مدعي الزعامات لمضمونها ، وان ادعوها قولا . فالكثير منهم يستدرج أقواما بالجور على اخرين . وبعضهم ليس للمظلوم في ولايته قرار ولا راحة ولا شفاء . يعمل بين الناس بالقياس على انتمائهم ومذاهبهم وآراءهم .
١٣ – أمين اليد :
كتب السيد محمد الحسين الحسيني الطهراني في مؤلفه ( الشمس الساطعة ) ، والذي تناول سيرة السيد العارف ( محمد حسين الطباطبائي ) : ( ان ميزانية صندوق المسلمين التي ترسل الى الحوزة تحت عنوان سهم الامام ، لا تتوجه الى أمثال هؤلاء . اما قبول هذا السهم منهم – بواسطة المتصدين لتوزيعه – فانه يحمل معه الذل والاستخفاف والتحقير امام جهاز الادارة . فتُمنع الإجازة من هؤلاء الأفراد الأجلاء الذين يمتلكون الصفات الأخلاقية والروحية ، اضافة الى الجوانب العلمية ، ويُحتاط من تصديق مقام اجتهادهم وفقاهتهم ، كل ذلك لانه يؤدي الى تثبيت شخصيتهم واستقلال أمورهم . وتُعطى للأفراد الجهال والأميين من غير المحتاطين والذين يتجرؤون على الكثير من الأمور ، الإجازات الطويلة والمطولة والألقاب والمجالات ، طالما انهم جباة لسهم الامام ، وذلك حتى لا يهتز مركز الحكم عن مقره ولا يُرى الخلل في وصول الأموال الى الأفراد غير الواجدين للشرائط والذين هم من الناحية الروحية والأخلاقية اقل من عامة الناس بمجرد ادعاء العلم والاعلمية والفقه والفقاهة والورع والاورعية . ) .
١٤ – من المدرسة النجفية :
وهنا يذهب السيد الشهيد الصدر قدس سره عميقا ، في استحضار متانة المدرسة ، والتركيز العالي لوهج المعصوم داخلها . وهي والخصيصة اللاحقة يحتاجان الى بحث خاص ، يتناول ابعاد المجتمع العراقي والحوزة النجفية . ولاشك – ابتداءا – ان المدرسة النجفية هي الأعمق علميا ، والأكثر إنتاجا نوعيا ، ولا يمكن مقارنة المدارس الاخرى بعطائها . كل ذلك ناشئ عن امتدادها التاريخي ، وتوفرها على أساطين مذهب الأمامية ، فضلا عن تشرفها ببركات الوجود العلوي السامي ، وتلك الأجواء الملكوتية لمقامه الشريف .
١٥ – عراقي :
قد أشرت في النقطة السابقة الى ضرورة البحث في خصائص المجتمع العراق والحوزة النجفية ، لكن فيما يخص العراق فهو وريث المجتمع الإيماني التاريخي ، والذي أطلقت عليه في احد كتاباتي المجتمع ( اليماني ) . وهذا المجتمع ورث خلاصة المجتمعات الإيمانية في القرون السالفة ، وخضع لتربية خاصة من قبل المعصومين عليهم السلام ، وقد هذبته العذابات والأحزان في طريق النصرة لآل محمد عليهم السلام . لذلك هو المجتمع الوحيد القادر على انتاج القيادة الربانية الصادقة . وليس معنى ذلك ان نمنع ظهور قيادات صالحة في مجتمعات اخرى ، لا ، ولكن لن يكون لتلك القيادات الإحاطة التامة بمراد المعصومين عليهم السلام ، ولن يكون لها العمق العلوي الكفيل بسيرها التام تحت إشارة المعصوم . وربما يقيس البعض نجاح القيادات بما تحققه دنيويا ، لكنه يكون واهما ، حيث يكون الطريق الأصلح للبشرية هو خلاف ما حققته قيادة استخدمت الآليات الدنيوية ، رغم هدفها النبيل . ومثال ذلك ما عاناه المعصومون ، حين قعدوا عن حمل السلاح مثلا ، حيث لم يفهمهم بعض شيعتهم ، وبعض خاصتهم .
١٦ – وجوده في النجف :
حيث الخصائص السابقة للنجف الأشرف ، ولحوزتها المباركة ، كما انها ستكون عاصمة الدولة الإلهية العادلة ، ومسكن الامام الحجة عليه السلام ، ومنها ينطلق نور ال محمد عليهم السلام الى العالم .
والسيد الشهيد الصدر قدس سره لا يقصد من الوجود من النجف الوجود المكاني الحصري ، بل هو – فيما أراه – يقصد ان يكون للقائد وجوده وإشرافه في هذا المجتمع الكوفي ، للنهوض به وتركيز تربيته باتجاه الدولة العادلة .
وكما يُنقل عن بعض العلماء ما مضمونه : ( اذا احتاجت المجتمعات الشيعية الاخرى الى عشرين سنة للنهوض بها ، فان المجتمع العراقي سيحتاج الى سنتين فقط ) . وهذا بالطبع عند وجود القائد المربي والصالح .
١٧ – الإخلاص :
جاء في قاموس المعاني : أَخْلَصَ في العَمَل : تَفانَى فِيهِ مِنْ عَادَاتِهِ أنْ يُخْلِصَ فِي كُلِّ عَمَلٍ يَقُومُ بِهِ . // أخلصَه النَّصيحةَ / أخلص له النَّصيحةَ : أصفاها ، نقَّاها من الغِشّ أخلص له المودّة . // { إلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ }: مَحَّصوه له خالصًا من شوائب الشرك والرياء .
هكذا جاء ، وهكذا أراد الشهيد الصدر من القائد ، لا سيما الديني . ( أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ) .