المقدمـــة: الدولة الإسلامية هي أمة أسسها رسول الله (ص), وكما أن أسلوب الحياة الإنسانية المثالية موصوف بدقة في تفاصيل الكتاب والسنة النبوية ، كذلك فإن شكل الدولة والمجتمع المثالي موصوف أيضاً في تفاصيل الكتاب والسنة, وأعظم من فهم الكتاب والسنة وعمل به على أرض الواقع هم الصحابة رضوان الله عليهم .
فتفاصيل شكل الحكم وفقاً لشرع الله موصوف بدقة في سيرة رسول الله والخلفاء الراشدين الذين شهد لهم رسول الله بالخيرية وأمرنا أن نتبع سنته وسنة الخلفاء الراشدين من بعده.
وأخبرنا (ص): “لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة.”
فأول عروة تنتقض في الإسلام هو الحكم ( أي جعله ملكاً عضوضا ) وآخر عروة تنتقض الصلاة والصوم .
نستفيد من هذا الحديث أن – الحكم – عروة وثيقة من عرى الإسلام كالصلاة والصيام وغيرها من عرى الدين، فمن أراد اتباع الدين فلا يأخذ بشيء ويترك شيء , أو ينكره وإنما يعمل جهده على فهم وتطبيق كل ما يطيق , وإذا لم يطيق تطبيق إحدى عرى الدين , فليس عليه حرج طالما أنه مؤمن بها عازم عليها في حال قدرته.
واليوم وبسبب تسلط بعض الأنظمة العربية وسيطرتها على الإعلام و المعاهد التعليمية، تجد الكلام عن شكل الحكم وصفاته نادر في وقتنا الحالي، على رغم اهتمام الفقهاء السابقين به مثل اهتمامهم ببقية عرى الدين، لكنك ترى ندرة من المعاصرين استطاعوا دراسته وتقديمه.
أولاً : التراث والتجديد
بعد قرون من تجميد أفكار الأمتين العربية والإسلامية.. ظهر صوت التجديد والإصلاح، بين من تخلى عن القديم تماماً , وبين من دعم كل ما هو قديم بالكامل.. وبينهم الإصلاحيون الذين يريدون صيانة القديم أثناء تبني الجديد.
تمثل مهمة “التراث والتجديد” في إعادة استكشاف الاحتمالات القديمة واستحضار احتمالات جديدة، واختيار الأنسب لتلبية احتياجات العصر الحالي, لا يوجد مقياس تجريبي لتقييم مدى صواب أو خطأ هذه الاحتمالات، بل يعتمد الاختيار على نتائجه العملية.
يعني اختيار المنتج الفعّال والملائم لمتطلبات العصر هو الاختيار الصحيح، ولكن ذلك لا يعني أن الاختيارات الأخر غير صحيحة، بل تظل تفسيرات محتملة لوضع زمن آخر.
نعم أصول الدين ثابتة على مر الزمان والمكان، إلا أن الفهم الذي نتبناه لها يختلف وفقًا لاحتياجات العصر المعين, كذلك، تظل حرية الإنسان وعقله ومسؤوليته ثابتة، ولكن طرق ممارستها تختلف من زمن إلى آخر ومن بيئة إلى أخرى.
ومن الضروري أن يكون هناك تصور ديناميكي للأصول ومقتضياتها، وتصورات عملية للعقائد ومختلف النظريات المتاحة، فاتهام حضارتنا بأنها وحدة وغير متعددة أو أنها مبنية على الاجتماع المتفق عليه فقط، هو اتهام خاطئ.
أحد الأشياء الرئيسية التي تميز تراثنا القديم هو توفير مجموعة متنوعة من الاحتمالات للاختيار، واعتبار الاجتهاد ليس فقط في أصول الفقه , ولكن أيضًا في أصول الدين الذي وظيفته ليست فقط في تطبيق الأحكام والأفعال، ولكنها تمتد أيضًا إلى اختيار النظريات المناسبة وتطبيقها وفقًا لاحتياجات العصر.
لذا تكون مهمة “التراث والتجديد” هي حل الألغاز التي تحيط بالماضي، وكذلك إزالة العوائق التي تمنع التحرر واستئصالها من جذورها, وإذا لم يتم تغيير جذور التخلف النفسي، مثل الخرافة والأسطورة والانفعال المذهبي والتأليه وعبادة الأشخاص والسلبية والخضوع، فإن الواقع لن يتغير.
لقد كانت الخلافات بين السلطات السياسية والدينية خلال فترات الحكم الوراثي الإسلامي في ذاك الدهر جلية، ليس حصرا في حياة العلماء الشيعة فقط , وإنما عند علماء السنة البارزين أمثال مؤسسي المذاهب الفقهية الأربعة، جراء رفضهم لمطالب الحكام الساسة أنذاك.
ثانياً : أبن تيمية 661-728هـ أنموذجاً
في عام 661 هـ، ولد – ابن تيمية – في منطقة من العراق تسمى حران، وهي مدينة قديمة اشتهرت بكتاباتها الفلسفية والحكمية، قبل ظهور الإسلام وبعده.
أغار التتار على العراق من جديد لاحتلاله (بعد غزو بغداد واحتلالها عام 656 هـ الموافق عام/1258م )، فهربت عائلة ابن تيمية نحو الشام، وقررت الاستقرار في دمشق غير الآمنة.
وبالطبع، رأى الطفل الويلات في طريق الهروب إلى الشام، ثم رأى ويلات أفظع بعد استقراره بها, فما لبث الإمبراطور المغولي غازان (قازان) أن جاء بجيشه إلى الشام فهزم الجيش المصري/ الشامي ( عسكر المنصور- قلاوون) وصاروا بين يديه فلولاً هاربة إلى القاهرة، وتهيَّأ الإمبراطور المغولي المسلم لاقتحام دمشق .
تسبب حصار التتار في فرار الناس من دمشق بحثًا عن الأمان في مصر , إلا أن – ابن تيمية -، الفقيه البارز في ذلك الوقت، لم يهرب مثل كثير من علماء ذلك الوقت، بل وفي ظل «حالة الانفلات الأمني» التي أرهبت دمشق، أصبح زعيما في قلوب أهل الشام.
خاصة بعد انسحاب الجيش النظامي المملوكي (جيش قلاوون) وهروب المجرمين من السجون، مما أحدث خرابا وتهديدا للمدنيين, ولم يستسلم – ابن تيمية- لواقع دمشق المضطرب، وانضم إلى ما نسميه اليوم (المجلس الرئاسي) لإدارة الوضع في دمشق والتفاوض لاستمالة السلطان الغازي “غازان”، ودعا الناس إلى تشكيل مجموعات مسلحة للدفاع عن المدينة .
وذهب – ابن تيمية – على رأس الوفد المفاوض، فوعده غازان (قازان) خيراً إذا ما سلَّم الناسُ أسلحتهم وأخرجوا المخبوء من أموالهم، ثم خدعه ودخل المدينة مثلما يفعل كثيرٌ من الغزاة والحاكمين.
وفي عام 700 هـ، وصل – ابن تيمية – إلى مصر بعد أن عجز عن مقابلة الغزاة مرة أخرى وإقناعهم بمغادرة دمشق، وبعد ورود أنباء عن نية السلطان المغولي غزو مصر, وفي القاهرة بدأ – ابن تيمية – يشجع الناس على قتال المغول، مما أثار غيرة الأمراء والسلطان قلاوون ليخرجوا ويقاتلوا المغول.
ثم علم أن أهل الشام سيهجرونها، فرجع إليهم وأخبرهم أن قلاوون وجنود المصريين يستعدون للذهاب للقاء التتار، وحاول أن يكون كالملك عليهم .
ومن المعروف أن – أبن تيمية – أفتى بأن المغول رغم كونهم مسلمين إلا أنهم قوم “خوارج” , وانضم هو بنفسه إلى قتالهم، فخرج وحمل السيف، وقاد الصفوف في المعركة, وفي شهر رمضان سنة 702 هـ، انتصرت مصر والشام، وانهزم التتار بعد صراع شرس.
وفي وسط هذه الأحداث المهمة اتضح لابن تيمية :
أن «النصيرية» الذين نسميهم اليوم «العلويين» كانوا متواطئين مع الغزاة (المغول، الصليبيين) وكذلك فّعل الغلاة من الشيعة على اختلاف مذاهبهم، فاشتدَّ هجوم ابن تيمية على (التشيع) وصبَّ جام فتاواه النارية، على كل مخالفٍ لمذهب السنة والجماعة .
رأى ابن تيمية أن الدراويش (الصوفية) يكتفون بالتبرك بالقبور وبالاستغاثة بالأولياء، من دون مجاهدة الغزاة, ومن هنا شن حملةً شعواء على الشعوذة والدجل الذى كان يسود الأوساط الصوفية آنذاك.
وهكذا كانت حياة – ابن تيمية – سلسلة من «المحن» والبلايا والأسفار المتتالية طوعاً وكرهاً، لكن ذلك لم يمنعه عن الاشتغال بالعلم والمعرفة الدينية والفقهية، خاصةً في الفترة التي أقام فيها بالإسكندرية (سنة 709 هجرية)، ثم عكوفه على التدريس والفُتيا بالقاهرة، ثم عودته لاحقاً إلى الشام واعتقاله في دمشق، وصدور الأوامر بمنعه من الكتابة بحجب الأوراق والأقلام عن زنزانته.
ولكن هنا يطرح سؤال. ما هي “الحكمة” التي يمثلها ابن تيمية؟.
لا يمكن فصل أفكاره عن المواقف الحياتية التي مر بها، لأنها حكمة (علمية) مدمجة في وقائع حياته, فهو ليس من الحكماء الذين تعمقوا في العلم أو انعزلوا عن حقيقته , بل كان مقاتلاً شرساً للغزاة الذين دنسوا الأرض وسفكوا الدماء.
هذا الرجل، مثل كثير من حكماء العرب من قبله، لم يكن لديه تعاليم “مشهورة” أو غيرها من التعاليم “الخفية”، ولم يكن مهتما بمسائل منفصلة عن الواقع, بل كانت أفكاره وفتاويه أشبه بضفيرة من الأحداث الجارية في ذلك الوقت، لا يمكن فصله عنها… وهذا يثير سؤالا آخر.
لماذا كثف ابن تيمية هجماته على الشيعة والصوفية ؟
نعم – ابن تيمية – اتخذ موقفا متطرفا، ليس ضد التشيع نفسه، بل ضد “شيعة معاصريه “، وليس ضد الصوفية نفسها، بل ضد” متصوفة عصره “, وأعرب في عدة كتب عن اعتقاده بأن التتار هم سبب الصراع , ومن يقف معهم .
ولا يمكن فصل حياة هذا الرجل عن آرائه الشرعية، ولو عاش – ابن تيمية – في زمن آخر لما كتب ما كتب, ولذلك فإن الطعون الحديثة في بعض جوانب منظومته الفكرية وإحياء بعض المصنفات من مصنفاته نوع من الوهم الباطل في هذا الإرث الشرعي.
توفي ابن تيمية في السجن سنة 728 هـ, وكانت حياته غنية بالحقائق والكتابات لدرجة أنه من الصعب تقديمها في مثل هذا المقال المحدود.
ولو كان – ابن تيمية – حياً اليوم ورأى، على سبيل المثال، صراع إيران ومحور المقاومة الإسلامية ضد أمريكا وإسرائيل ، لانحاز فوراً إلى جانب المسلمين وتوقف عن انتقاد الشيعة.. ولأنتقد الدول العربية والإسلامية التي فتحت سفارات لها في تل أبيب, ولغادر مصر الى طهران لتكون مقر أقامته الدائمة.المصادر
وكالة نون الخبرية/ التراث والتجديد فكر ملتوي/ تيسير الأسدي/ في 7 نيسان2020. https://non14.net/122449.
فقه الثورة / للكاتب المصري الدكتور يوسف زيدان.