الحرية مفهوم متعدد الرؤى والدلالات ، فكل يفهم الحرية على شاكلته ، وبما يناسب منظومته او ايديولوجيته الفكرية والعقدية .
أن اختلاف التأويلات حول هذا المفهوم جعلت من الصعب الاتفاق على تفسير واضح للحرية ، ولكي نفهم معناها العام والاساسي لا بد من الرجوع الى قادة الاسلام النبي الاكرم واهل بيته (صلوات الله عليهم) وورثة علومهم من العلماء العاملين ، وكذلك مراجعة ما كتبه أهل الفكر من المدارس الانسانية المختلفة ، لنتعرف من خلال توصيفاتهم على ماهيتها ومفهومها وأنماطها وحدودها ، وبالتالي محاولة الوصول الى المعنى الحقيقي للحرية .
ربما كان أشهر نص اسلامي حول مفهوم الحرية هو ما روي عن الامام علي (ع) في قوله ( لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً ) ، والحرية انطلاقا من حكمة الامام هي الانعتاق من عبودية الغير ، لأن الله تعالى خالق الانسان لم يجعل لأي كائن سلطة لاستعباد الانسان ، وان تلك الحرية لا يمكن لاحد ان يسلبها حتى لو أستخدم كل اساليب الظلم والعنف ، لأن الخضوع الاضطراري والاجباري لسلطة وقبضة الظالمين تبقى مقيدة بحدود جسد الانسان ، ولا تخضع قواه او ارادته العقلية للاستعباد القسري ، لأن عقل الانسان لا يمكن ان يسلب من دون ارادته ، ولكن ذلك يحتاج ايضاً الى مقاومة وصلابة وصبر ، ويوضح الامام علي (ع) هذه النظرية بقوله : (الحر حر وإن مسه الضر) .
ومن معاني الحرية التي تسمو بالإنسان هي السيطرة على الغرائز وعدم فسح المجال لعنان النفس بالانغماس في تيار الشهوات الذي يحط من قسمة وقدر الانسان وإنسانيته ، ويروى عن الإمام علي (عليه السلام) بهذا الصدد قوله : من ترك الشهوات كان حرا) .
اما نظرة الفكر الاسلامي الى مفهوم الحرية فيعبر عنها السيد محمد باقر الصدر (رض) في كتابه المدرسة القرآنية وهو لا يكتفي ببيان الرؤيا الاسلامية للحرية وإنما يوضح الفرق في فهم الحرية والتباين في دلالاتها وتطبيقاتها ومجلاتها مع الحضارة الغربية فيقول : ( الإسلام والحضارة الغربية، وان مارسا معا عملية تحرير الإنسان، ولكنهما يختلفان في القاعدة الفكرية التي يقوم عليها هذا التحرير. فالإسلام يقيمها على أساس العبودية لله والايمان به والحضارة الغربية تقيمها على أساس الايمان بالإنسان وحده وسيطرته على نفسه، بعد أن شكت في كل القيم والحقائق وراء الابعاد المادية لوجود الإنسان).
وهذا الاختلاف الذي يشخصه السيد الصدر بين الحضارتين الاسلامية والغربية هو اختلاف جذري قائم بالأساس بالنظر الى الخلفية الروحية للحضارة الاسلامية مقابل الخلفية المادية المحضة للحضارة الغربية ، والى أصل التشريعات والقوانين العلمانية لبلدانها والتي هي على عكس الشعارات التي يتبجحون بها حول الحرية كقولهم (حريتك تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين) ، فان تلك الحرية وتحت مزاعم موافقتها لقوانينهم الازدواجية لا تتوانى عن إهانة مقدسات الاسلام ورموزه الدينية كحرق وتمزيق نسخ القرآن الكريم ، والاساءة لشخص النبي الاكرم (صلى الله عليه واله) برسوم كاريكاتيرية أو روايات ادبية او افلام سينمائية ، او إهانة كيان الانسان وكرامته بقوانين همجية تحت لافتة الحرية لتشرع زواج الشذوذ الجنسي وغيرها من التشريعات المنحطة ، بينما تمارس أشد العقوبات اذا لامست حرية التعبير في بلدانهم (معاداة السامية) أو إهانة ملوكهم ورؤساء حكوماتهم ، او تقديسهم لقوانينهم ودساتيرهم العلمانية وعدم اعترافهم او احترامهم لقوانين وتشريعات وثقافات البلدان الاخرى .
ويوضح الاديب والموسوعي اللبناني بطرس البستاني الالتباس الحاصل في مفهوم الحرية وحدودها ، ويرى ان للحرية ضوابط وحدود لا يجوز الخروج عنها لان ذلك برأيه سيكون نوع من الالتفاف الحرية وتحريف لها ( توهم البعض في معنى الحرية جواز فعل كل ما يخطر في البال وهذا نوع من اساءة استعمال الحرية ).
المرجع الديني الشيخ محمد اليعقوبي يبرز في سياق بعض كلماته في كتابه (ثقافة الرفض وإصلاح المجتمع) على معاني عديدة للحرية وتطبيقاتها ، ويبين ان الحرية الحقيقية هي التحرر من كل عبودية لغير الله تعالى ، وان العبودية الحقيقية هي في التسليم المطلق لله تعالى ولإحكامه وتشريعاته ونبذ ما يخالف تلك الاحكام والتشريعات ( إن الحرية التامة والانعتاق الحقيقي هي في العبودية التامة والتسليم المطلق لله تبارك وتعالى فكلما أزاد العبد طاعة وتسليماً لله تبارك وتعالى تحرر من الرق لغيره أكثر [فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً] (النساء:65) ) ..
ويرى سماحة المرجع اليعقوبي ان معاني ومعالم الحرية الحقيقية تتجسد في عدد من المحاور المترابطة التي تشكل في تحقق اجتماعها قواعد أساسية لفهم رؤية المشرع الاسلامي لمفهوم الحرية وهي :
1- العودة إلى التوحيد الخالص .
2- التحرر من عبودية الذات والأطماع والهوى والأنانية والمصالح .
3- التحرر من طاعة الطواغيت وتقديس السلف وغيرها من الأصنام التي تغلّ العقل والقلب عن الانفتاح على الحرية الحقيقية.
اما الحرية الحمراء التي يروج لها دعاة تسفيه العقول ومروجي الافكار المنحرفة وعبيد الشهوات والاهواء الضالة فهي حرية لا تمت الى الثقافة الاسلامية والانسانية بصلة وهي حرية عوراء وعرجاء ، كما أن المطالبة بالحريات التي يروج لها بعض المنفلتين على القيم والآداب العامة فلا يقصد بها حرية الفكر والإبداع وحرية الرأي والتعبير بكل تأكيد ، وانما يراد بها حرية التهتك والتسافل والتعري والشذوذ والتحريض على الفسق والفجور واغراء وإغواء الشباب بهذه الأفعال التي تتنافى مع قيم وتقاليد المجتمع لإفسادهم فكريا واخلاقيا ..
ويؤكد المرجع اليعقوبي على ضرورة رفض دعوات الحرية المنفلتة لمخالفتها عقيدة وثوابت المجتمع الاسلامي ، والتي هي اساس كل القوانين والتشريعات ، ولا يمكن مخالفتها لأنها تمثل مصادر التشريع الاسلامي القرآن الكريم وسنة النبي الاكرم واهل بيته (صلوات الله عليهم) وثقافته الاسلامية المستمدة من قوانين الله تعالى واحكامه بعكس القوانين الوضعية المتغيرة بحسب تعدد الآراء والاهواء وأيدولوجية مصدر السلطة ، والتي تسعى لسلخ الأنسان من هويته الانسانية والانحدار به الى الهاوية ، ( إن الحرية لا تعني الانفلات من الضوابط فإنها حينئذ عين الهمجية ، فلكل دولة قانون ينظم حياة الشعب فيها ولا ترضى سلطاتها بتجاوز هذا القانون ، وقانون هذا الشعب هو الإسلام بعقيدته وأفكاره وسلوكه وأعرافه وتقاليده لأن الإسلام من صنع لله تبارك وتعالى خالق الإنسان والعارف بما يصلح عيوبه ويسعد روحه وجسده وينظم حياته وعلاقاته بالآخرين ، اما القوانين الوضعية فهي من صنع البشر الناقص الذي لا يستقر له رأي فيحذف اليوم ما ثبته بالأمس ويعدل غداً ما يقرره اليوم وهكذا فإيهما أولى بالأتباع ؟ ، {أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كيفَ تحكمون } (سورة يونس ,35) ، فماذا يريدون من حرية الملبس بلا قيد أو شرط إلا العري والانسلاخ من الحياء والعفة والعودة إلى الحيوانية ) .
ويشخص المرجع اليعقوبي أهم الدروس والعبر التي علينا أن نستحضرها في القضية الحسينية وأحيائها ، وهي الاهداف الاساسية لقائد النهضة الامام الحسين (عليه السلام) وحركته الإصلاحية ، وهي الاخلاص لله وتكريس الطاعة والافتخار بإعلان العبودية له تعالى وحده لا شريك له ( ان حركة الإمام الحسين (ع) هي لنكون أحراراً لا نطيع إلا الله تبارك وتعالى ولا نعبد إلا إياه ، هذه العبودية التي يفتخر بها مثل أمير المؤمنين (ع) ويعتز بها، قال (ع): (إلهي كفى بي عزاً أن أكون لك عبداً وكفى بي فخراً أن تكون لي رباً، إلهي أنت كما أحب فاجعلني كما تحب) ، وهذه هي الدعوة التي أطلقها الأئمة المعصومون (ع) (لا يستعبدكم غيركم وقد خلقكم الله أحراراً)، فقد خلقكم الله تبارك وتعالى أحراراً واقتضت إرادته ذلك ويسّر لكم كل أسباب الحرية ) .
ويستغرب سماحة المرجع اليعقوبي من اغفال المجتمع الاسلامي لهذا المفهوم الخالص والمقدس للحرية رغم صدورها من قادته المعصومين والانسياق خلف الاهواء والشهوات والمعاصي فيفقد الانسان بصيرته ، وبدل ان يوجه البوصلة نحو الهداية والرشاد والصلاح ، يلهث بالاتجاهات المعاكسة والدروب الوعرة التي تؤدي به الى الهلاك والخسران المبين ويوجه سماحته انظارنا الى تلك الطرق الضالة ولتلافي السقوط في فخاخ الشيطان ، وتجنب أوزارها ( فمن الغريب أن يكون هذا عبداً لأهوائه وأطماعه وأنانيته ، وذاك عبد لشياطين الإنس والجن يزيّنون له المعاصي والموبقات فيقتحمها ويعرض عن طاعة ربه الكريم ، وآخر رضي لنفسه أن يكون عبداً للطواغيت والظالمين وجندياً مخلصاً لهم يأتمر بأمرهم ولا يرقب في الله تعالى إلاً ولا ذمة ، ورابع خدعته القداسات المزيفة لهياكل بشرية صنعتها لها أبواق الكهنة والسدنة والمستفيدين وأموالهم وسلطانهم فصار المعروف ما عرفوه والمنكر ما أنكروه وجعلوا تلك الهياكل مقياساً لمعرفة الحق وليس الحق معياراً لمعرفة الرجال ، وخامس اتخذ رئيس عشيرته رباً يعبده ويطيعه من دون الله تبارك وتعالى فالمهم طاعة هذا الرئيس والالتزام بالسنينة العشائرية وإن كان مخالفة لله تبارك وتعالى وما جاء به الذكر الحكيم، والله تعالى يقول: [وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ] (التوبة:31) ).
النهضة الحسينية حفلت بالمواقف والاحداث التي جسد خلالها الامام الحسين واهل بيته وأصحابه الابرار (سلام الله عليهم) المعاني السامية والمثل العليا للحرية والتعبير عن الرأي والشفافية ، ويبين المرجع اليعقوبي أن تحرير الانسان هو الهدف الاسمى الذي سعى الامام الحسين (عليه السلام) لتحقيقه من نهضته الانسانية الاصلاحية (ان تحرير الإنسان هو الهدف الذي سعى لتحقيقه الإمام الحسين (ع) وصرّح به في كلماته كقوله (يا شيعة آل أبي سفيان: اتركوا التعرض لحرمي فإنه إن لم يكن لكم دين فكونوا أحراراً في دنياكم إن كنتم عُرُباً كما تزعمون).
وقال (ع): (ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: السلة والذلة، وهيهات منّا الذلة) وقال (ع): (يأبى الله لنا ذلك وحجور طابت وطهرت وأنوف حمية ونفوس أبية أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام) وقال (ع): (الناس عبيد الدنيا والدين لعق على أنفسهم يحوطونه ما درت معائشهم فإذا محصوا بالبلاء قلَّ الديّانون).
لقد تجلت مظاهر الحرية في النهضة الحسينية على صعيد القيادة والافراد بأنصع وانقى صورها ، فعلى صعيد القيادة فإن الامام الحسين (عليه السلام) وبكل شفافية جعل أصحابه في حل منه ومن خوض المعركة الفاصلة في كربلاء ، وترك لهم كامل الحرية في التصرف سواء في البقاء أو المغادرة ، واختار الليل لمحادثتهم لتوفير فرصة الخروج من المعسكر بصورة مثالية ، ويوضح سماحة المرجع اليعقوبي عظمة هذا الموقف الحسيني الانساني النبيل والذي كان تجسيداً حقيقياً لشعار النهضة الحسينية كونوا احراراً ( من مبادئ حقوق الانسان في النهضة الحسينية هي حريّة التعبير عن الرأي واتخاذ القرار بكل اختيار وإرادة من دون أي تأثير وإكراه ، ففي ليلة عاشوراء والعدو عازم على مناجزته القتال وقد تكامل عددهم ثلاثين ألفا وهو(ع) في سبعة عشر من أهل بيته و سبعين من أصحابه، ومن كان في ذلك الموقف يتشبّث بأي عدّة أو عدد، نراه يجتمع مع اصحابه ويقوله لهم {إنّي لا أحسب القوم إلاّ مقاتلوكم غداً، وقد أذنت لكم جميعاً، فأنتم في حلٍّ مني وهذا الليل قد غشيكم، فمن كانت له منكم قوّة فليضمّ رجلاً من أهل بيتي إليه وتفرقوا في سوادكم} ).
اما على صعيد الافراد ، فلقد حفلت واقعة كربلاء بجملة من النماذج العليا التي أضحت رمزاً للحرية والارادة الحرة في التاريخ الاسلامي والانساني ومنها على سبيل المثال لا الحصر نستعرض هذه النخبة :
1- علي الأكبر : لقد تجسدت معالم الحرية في يوم الطف بعدد من رموزها الافذاذ من أهل بيت الامام الحسين (عليه السلام) وأصحابه الابرار ، ومن أصحاب هذه المواقف المشهودة ولده علي الاكبر الذي كان الفدائي الشجاع للنهضة الحسينية كما كان النبي أسماعيل (عليه السلام) فدائي النهضة الابراهيمية ، وحديث علي الاكبر مع أبيه الحسين (عليهما السلام) وهو في طريقه الى كربلاء حينما لفت الامام أنظار ولده حينما استرجع بانا لله وانا اليه راجعون ، فسأله ولده ، لما استرجعت يا أبي ، فقال الامام (ع) : انني خفقت خفة فعن لي فرس على فارس وهو يقول : القوم يسيرون والمنايا تسير أمامهم ..
فكان جواب الاكبر : يا أبت لا أراك الله سوء ، ألسنا على الحق ؟
فقال الامام : بلى والذي إليه مرجع العباد .
فقال الاكبر : فإننا إذن لا نبالي أن نموت محقين .
وبهذا الموقف جسد الاكبر الحرية الحقيقية وحرية التعبير الواعية المخلصة بالثبات على الموقف لأن موقف خالص لله تعالى في سبيل دينه فأختار علي الاكبر الثبات على الموقف وأن كان الثمن الموت ، لأن الشهادة في سبيل الله تعالى هي غاية وسبيل الاحرار ..
2- الحر الرياحي : ومن اصحاب الامام الاحرار كان نموذج الحر الرياحي ، هذا البطل كان رمزا للحرية التي تجردت من الأهواء الشخصية في كربلاء حين اختار الوقوف مع الإمام الحسين (عليه السلام) ، الحر كان قائد مقدمة جيش الكوفة الاموي وكان لا يميل الى أهل البيت (عليه السلام) وانما كان عثماني الهوى كما تصفه كتب التاريخ والسيرة ، وكان مسؤولا عن قطع الطريق على الامام الحسين (ع) في ميسره الى الكوفة ، وهو من جعجع بالركب الحسيني الى كربلاء ، ومع كل المميزات التي كان يحظى بها في جيش ابن سعد ، والمكافئات التي تنتظره بعد انجاز مهمة قتل الامام الحسين (عليه السلام) ، الا انه في ساعة الصفر ورغم علمه باستحالة نجاة الامام الحسين (ع) وأصحابه من المذبحة الكبرى الا انه خير نفسه بين الحرية الأبدية والعبودية ، وبين الحسين (ع) ويزيد ، وبين الجنة والنار ، فلم يتردد قيد انملة في اتخاذ الموقف الصحيح وأختار ان يكون حراً في الدنيا والأخرة كما وصفه الامام الحسين (عليه السلام) تتويجا لموقفه الشجاع في العودة الى الله تعالى ونصرة الحق .
3- جون بن حوي : كان جون مولى لابي ذر الغفاري ، وكان ممن لبى دعوة الامام الحسين (عليه السلام) للذهاب الى الكوفة والالتحاق بالركب الحسيني ، ولكن الامام في ليلة عاشوراء اجتمع مع أصحابه ومنهم جون وأذن لهم بالرحيل طلبا للسلامة ، لكنه آبى ان يفارق الامام ، وفي صبيحة يوم عاشوراء جدد الامام الإذن لجون بالرحيل وإنقاذ نفسه وخاطبه (عليه السلام) قائلاً : ( أنت في إذْنٍ منّي، فإنّما تَبِعْتَنا طلباً للعافية، فلا تَبْتَلِ بطريقنا) ، الا ان جون كان قد عزم على ان ينال شرف المشاركة مع أبي الاحرار في جيش الحرية والآباء ، وكان جوابه للإمام : (والله لا أفارقكم حتى يختلط هذا الدم الأسود مع دمائكم) ، وهكذا أختار جون الحرية الأبدية في رحاب عاشوراء ، وعندما وقع شهيدا ذهب الامام الحسين (عليه السلام) قرب جثته وأحتضن رأسه واختصه بدعوة مباركة قائلا ( اللهمّ بَيِّضْ وجهَه، واحشُرْه مع محمّدٍ صلّى الله عليه وآله، وعَرِّفْ بينه وبين آل محمّد عليهم السّلام ) .
4- وهب النصراني : كان وهب الشاب المسيحي قد تزوج حديثا ، وكان مسافرا مع زوجته وأمه وفي الطريق التقى بركب الآباء الحسيني ، ورأى في عالم الرؤيا النبي عيسى (عليه السلام) يحثه على نصرة الامام الحسين (عليه السلام) ، فصدق الرؤيا وعزم على الالتحاق بقافلة الامام ، واختار ان يكون مثلا أعلى للحرية الحقيقية والوعي الصادق ، أما والدته صاحبة المواقف المشرفة والشجاعة فقد وقفت يوم عاشوراء لتدعو ولدها وتحثه على نصرة الامام قائلة : ( قم يا بني فانصر ابن بنت رسول اللّه ( صلى الله عليه وآله ) ) ، فكانت نصرته وهو الشاب المسيحي يوم الطف حجة بالغة على معسكر النفاق الكوفي اليزيدي الذي يدّعي الاسلام وهو الذي تخاذل عن نصرة ابن فاطمة الزهراء (ع) روح النبي وبضعته الطاهرة ، وأختار اولئك البائسين العبودية والذل بنصرة ابن أكلة الاكباد .
لقد كانت النهضة الحسينية ميداناً لأهم المبادئ الانسانية العليا ومجالاً لتطبيقاتها على ضوء الدين الاسلامي من خلال شخص الامام الحسين (عليه السلام) القائد والباعث لتلك الثورة والانتفاضة الإنسانية ، وتجسدت صورها أيضا بأنصار معسكر الامام من الآل والأصحاب الذي سطروا بثباتهم ومواقفهم أسمى معاني التحرر والحرية الإنسانية ، وهكذا هي صور كربلاء الحسين (عليه السلام) ، وهذه هي معالم النهضة الحسينية الساطعة التي ستبقى زاخرة بالعطاء على كل الاصعدة والمستويات والثقافات والمواقف فكرياً وإنسانيا وتربوياً واخلاقياً ، ولذلك كانت تلك النهضة الخالدة منهلاً لا ينضب من العطاء الصافي ..
[email protected]