عندما تتجلد العقول ، ويصيب الفكر الشلل ، ويهيمن طمع السلطة على الحكمة ، فسوف لن يستمع لهمس الضمير الخافت ، لهذا أراد الله أن تكون واقعة استشهاد الحسين ، عالية مدوّية صاخبة ، كمطارق تهز الكيان ، كمن يصرخ في أذننا لتصحوا عقولنا البليدة ، ترياق يدفع عن جسد الأمة سمومها وخدَرَها وأنحرافها ، وكأنه العلاج بالكيّ ، كما لو كانت اللغة الوحيدة التي نفهمها ، لغة العنف والدم والصخب والنار، لتُذهب عن عقولِنا ذلك التجلّد ، وهو يُذبحُ وذراريه بمنتهى الوحشية التي خلت من أي خصلة يملكها أنسان ، أرادوا بذلك أبادة (خطّه) ومنهجه ، أرادوا بساديتهم وعنف المأساة ، تخويف كل من يُطالب بفطرته الأساسية التي خلقها الله معه ، الحرية ، فهي أكبر عدو يخافه الطغاة ، وهم يحلمون بشعب من العبيد ، هكذا رأيناهم يحاربونها دون هوادة ، فهم يعلمون أن الحرية ٳن تفشت ، كانت لهم كالمبيد .
(ٳن كنتم عُرُبا كما تدّعون) ، قالها الحسين مخاطبا معسكر أعداءه ، نعم ، العروبة مجرد ادّعاء ، يقع في آخر قائمة أهتمامات الأنسان العربي كما أثبتت الوقائع ، ولم يرثوا معه الخصال الأنسانية ، لهذا قال (فكونوا أحرارا في دنياكم) ، لقد وضع أصبعه على الجرح ، فجيش أعداءه ، كان من العبيد ، يتحرك كالآلة ، بلا ضمير ، بلا مشاعر ، بأشارة من أسيادهم .
لا أبالغ اذا قلت ، أن الأنسان حيوان حُر ، انا حُر ، أذن أنا أنسان ، لكن مفهوم الحرية لدينا ، مفهوم ضيق ، هو أن تعمل ما تحب ، هذا هو بالمختصر ، ومايترتب على ذلك مجرد أمور ثانوية ، حتى لو كانت تمردا وتجاوزا على حرية الغير ، لهذا انبرى أهل البيت (ع) ، المولعون بالحرية بأمتياز ، أن يرسموا لنا خطوطها العريضة الواضحة ، بأعتبارها من أهم أسرار الأنسانية الحقة الراقية .
الحرية في نظر الحسين ، مفهوم راقٍ لا زلنا غير ملمين به بسبب قصور فهمنا المزمن لها لأننا لم نألفها كونها ممنوعة أبدا في بلداننا ، ونحن نتنقل من عصر ديكتاتورية الى آخر ، وٳن توفرت ، وقعنا في فخ اساءة استخدامها وكأننا لم نبلغ سن الرشد مهما بلغنا من العمر عتيا ! .
الحرية بدون أطُر تزينها كالأيقونة (لا أقول تطوقها) ليست حرية ، الحرية دون مراعاة الغير ، دون تعاون ، دون تكافل ، دون اعتبار للبشر شركائنا في الحياة ، دون فطرة سليمة ، ليست حرية ، انها تختزل كل الخصال الحميدة من نبذ الغيبة ، والكرم ، وصون اللسان والحشمة ، والخُلق اللين والتواضع والصدق ، فتضيف عليك هالة من الهيبة والأحترام ، بل القوة ، وستشحذ عقلك وفراستك ونظرتك للحياة ، لهذا قيل (الحُرّ تكفيه اشارة) في إشارة إلى (حرية) الحُر الرياحي ، لأنه رفض الإنخراط في قطعان العبيد التي إستلت السيوف لحرب الحسين .
الحرية تعني احترام الحياة ، وبيئتها وموجوداتها وكل اشكالها ، تعني الفضول المشروع وروح التقصّي والبحث ، تعني العمل لأجل فائدة الصالح العام فلا مكان للأنانية مع الحرية ، الحرية الحقيقية ، هي حرية الفكر ، أن تكون سيّد نفسك وآرائك دون فرضها على الغير ، أن لا تحتكر علما أو مالا ، أن تترفع عن عبادة (الآلهة) المعاصرة المتعددة ، التي تكون على شكل سيارة ، طعام ، مال ، شهوة ، جاه .
الحرية هي أن تعمل دون مراقبة ، أن تحب عملك وتعطيه حقه وٳن كان وضيعا ، وحتى لو فُرض عليك ، وأن تتقنه ، حتى اذا انهيته ، سيقال عنك أنك حُر.
الحرية هي بأحترام الوقت ، وعدم تبديده ، أن لا نكون فريسةً للخواء الفكري والروحي ، بل حتى الشرود الذهني ، وأن نستبدله بالتفكّر والتدبر ، كما أوصانا الأمام علي (ع) .
الحرية هي أن لا تكون عبدا للمتع والشهوات والأسراف ، بل نستبدل ذلك بالقناعة ، والشعور بالأكتفاء ، أن تفكر أن ثمة جزء من هذا الأسراف ، يمثل مسألة حياة أو موت للجياع ، كما قال الأمام علي (ما جاع فقير ، ٳلا وبما مُتّعَ به غني ) .
الحرية هي أن تترفّع عن كل أنواع العُقد ، كعقدة الشعور بالاضطهاد ، أو الرغبة في الأنتقام ، وأن لا تكون في النفس رائحة من الحقد أوالحسد أوالكراهية ، فالأمر الصعب هو ترويض النفس بأن تجاهدها ، وتشذبها وتنفض عنها غبار كل الصفات السلبية ، هكذا تسمو الروح ، وتتعالى عن طبيعنها الحيوانية ، عندها سيكون ذلك أفضل العزاء للحسين ، وأخاله سيبتسم رضىً ، ابتسامة ما أغلاها وما أروعها وهو في عليين ، ولنتذكر قول أديبنا جورج جورداق (رحل الحسين عن هذا العالم ، بعد أن لقّن البشرية درسا لن تنساه) ، فقد ألهم هذا الرجل البشرية واسترعى أنظار مصلحيها وقادتها وأدبائها وباحثيها ، من أن الحرية ضرورةٌ غاليةٌ لا تأتيك الا بأغلى الأثمان ، طالما هنالك من يريد انتزاعها منك .
قال الشاعر الكبير (جبران خليل جبران) وهو يقول عن أبي الحسنين الأمام علي (اتصوره وهو يغادر هذه الدنيا مبتسما ، فقد علم أنه بذر بذرة ، لن تموت) ، فنِعم البذرة ، ونِعم المبادئ ، بل نِعم المدرسة .
وأقول أن تنمية فكرة الحرية الحسينية ، هي بجعلها تتغلغل عميقا في الأذهان ، الى درجة أن تنعكس لاشعوريا على كل تعاملاتنا وتصرفاتنا وتفكيرنا ، أفضل بكثير من الممارسات (المادية) الصاخبة الى درجة اراقة الدماء ، ثم ينتهي كل شيء ، بعد انتهاء موسم عاشوراء .
سمعت أحد أئمة المنابر يقول ساخرا متهكما : (من أين اتت مظلومية الحسين ) ؟! ، وأنا أتسائل ، اليس كلّ مَنْ يُقتل بلا ذنب ، يُعدّ مظلوما ؟ فكيف بالحسين ، سيد شباب أهل الجنة وبضعة الرسول ، الأمام قام أم قعد ، لكن هنالك احتمال أكيد ومبطّن لدى هؤلاء ، أن الحسين كان يستحق حدّ القتل لخروجه على أمام زمانه أمير المؤمنين (يزيد) ، وأنه نازعه على سلطانه !! ، هذا الذي قال متشفيا ورأس الحسين أمامه :
لَعِبَتْ (هاشم) بالمُلكِ ……….. فلا خبَرٌ جاء ، ولا وحيٌ نزلْ !
لكنه يبقى في نظرهم أميرا للمؤمنين ! لأنه يمثل سطوة السلطة بكل ما بها من ظلم وتعسف وسياط وتسلط ، بكل ما بها من بداوة وجاهلية ، فما أبعد هؤلاء عن الحرية !.
ولنعد إلى سر سوء حالنا الذي لا يُسرّ العدو قبل الصديق ، ولنستذكر القاعدة الذهبية التي صكّها سيد الأحرار وملك الثوار الإمام علي : (كيفما تكونوا ، يولّى عليكم) ، ونحن نرى الجاهلية بأبشع صورها وقد عادت إلينا ، فنحن نقيّم مدى قرب المرء من الحسين ، بعدد قدور القيمة والهريسة التي ينشرها في الشارع برياء ! ، صنعنا أصناما على شكل أحزاب سياسية تحمل ختم العوائل والوراثة ، فصرنا لها عاكفين ! ، بعدما أبعدتنا هذه العوائل عن خط (الحسين) ، لأنها صارت تبارك الولاء لها وحدها ، ونقيّم مدى تقوى أصحاب المواكب ، بعدد الشوارع التي يغلقها ، وبعدد أفراد قوى الأمن التي تحميه ، بل بمقدار الدم المسكوب من الهامات الخاوية من مفاهيم حرية (الحسين) ، تلك التي تُراق في مواكب التطبير ، والتي تحولت إلى (فلكلور) مقدس ، لا أدري إن كان هذا الفلكلور أصيلا أو دخيلا ، أحزاب سياسية دينية ، جعلت حتى (يزيد) يتقزّم امام الثراء غير المشروع والأملاك والأبّهة والميل إلى الإجرام والقتل لكل من تسوّل له نفسه ، لمجرد مطالبته للعيش كأي إنسان سوي ، فعملوا بمبدأ من إدّعوه عدوا ، ذلك هو أبو سفيان عندما قال (تلاقفوها ، تلاقف الصبية للكرة) ! ، ويطالبون بخروج المحتل ، الذي لولاه ما خرجت الجرذان من جحورها ، ولا الخفافيش من زوايا الظلام ، فهل عرفتم سرّ سوء حالنا ؟! .