حَقيقةُ آلثّقافة في ألفلسفة ألكونيّة و كيف تكون مُفكّراً؟
أفضل تعريف للثّقافة, هو ما قالهُ (إدوار هريو)(1)؛ [ألثقافة هي ما يبقى في الفكر بعد ما ينسى الأنسان كلّ شيء], خصوصاً عند الغضب, و لو وضعنا تعريف (أرسطو) الذي قال, [التفكير مستحيل من دون صور],بجانب تعريف (هريو), أعتقد بأننا نُقدّم صورة أوضح و أجمل للثقافة!
ذلك أنّ الصّورة تتميّز بقدرة التسلل لوجود الأنسان و الإقامة الطويلة في الذاكرة و ربّما يؤدي بعد التمحيص و الموائمة إلى الأستقرار ألأبدي في القلب ليكون جزءاً من هواهُ وعقيدتهُ و عشقه، فقد ينسى أحدنا كلاماً أو خطاباً أو محاضرة سمعها, أو كتاباً قرأه قبل عشرين عام و هذا هو حال الناس .. لكنهُ بالتأكيد لن ينسى بسهولة مشهداً بصرياًّ أو صوراً مرئية تملأ عينيّه و وجوده خصوصاً أذا أحبّها و تعلّق بها, لا سيما تلك التي تحفل بجرعة عالية من آلجّمال و الجاذبية و الأناقة و الدّهشة و آلأثارة التي تملأ الروح و الحواس بآلبهجة و الأمل!
و من الناحية العلميّة, فأنّ آلصّورة تشغل حيّزاً أكبر و أوضح في الذاكرة, كما في الحاسبات الأليكترونيّة حيث إن الصورة تشغل مساحات أوسع كلّما كان مقدار(الميكابكسل) عالية, رغم إن سعة التخزين كبيرة في حافظة الأنسان حيث تصل إلى معدل 30 مليون (كَيكَأ بايت) لكن لا يتمّ إستغلال سوى 3% منها في أفضل الأحوال, لذلك فأنّ المساحات الكبيرة التي تشغلها الصور والتوافه و الجدل في وجودنا تبقى فاعلة و ممتدة و مؤثرة لمدد أطول كذكريات خالدة قد تُرافقنا لآخر العمر و قد تمتدّ لما بعده, لو آمنا بأنّ عمر الأنسان الفكريّ – الظاهر و الباطن منه – ليس محدوداً بزمان أو مكان و كما يعتقد الناس بآلخطأ!
من هذه الحقيقة العلمية أرجو من الشباب الساعين للثقافة الرصينة وألّذين يأملون أنْ يكونوا مثقفين و ربما مفكريين؛ عليهم الحذر من ملأ عقولهم بآلصور والمواد التافهة ألضّارّة كآلصور وآلأفلام الجّنسية وآلجدال والخصام واللجاجة لأنها تقلل من فرصة التثقيف و تشغل مساحات من الحافظة وتٌبعدهم عن التّدبر و آلتّفكر ممّا يسبب ضعفها, وعليهم ملئها بآلمفاهيم المعرفية والفلسفية في إطار علم (الكَوانتوم) بدل ذلك حتى تكون مَلَكَة في وجودهم و مقدمة لطرق باب الفلسفة!
و لو وضعنا تعريفاً آخر لـ (أرسطو) بجانب التعريفين ألسّابقين؛ [بكون التّفكير مستحيل من دون صور], نكون قد أتممنا ألمفهوم ألحقيقي للثقافة و حقيقة الفكر(2) لدرجة الكمال ألّذي من خلاله يتكامل وعينا ونظرتنا(3) لحقائق الوجود, و بآلتالي نكون قد قدَّمّنا صورة جامعة وكاملة لأهم و أخطر مسألة في وجود الأنسان بعد (القلب)(4) الذي يُشكّل جوهره الحقيقي أو ما يعبر عنه علماء النفس بآلوجدان أو الضمير أو العقل الباطن الذي يواجه أخطار جمّة في هذا العصر بسبب الأستغلال و الحرب و العنف و النفاق .. فتأثّر و تعرّض وجود الأنسان وأسفاره و عاقبته على طول الخط للخطر!
ولذلك أكدّ الخالق تعالى على العناية والأهتمام بآلضمير أو(القلب) أو(الوجدان) وتسخيره للمحبة كونها الأساس والمعيار للفلاح والفوز العظيم لنيل السعادة في الدارين فيما لو تطهّر وتعبّأ بآلمثل والقيم والطيّبات ليكون منتجاً فاعلاً للفكر والخير والأصلاح على كل صعيد, أو العكس من ذلك يكون معياراً للخراب وآلشّر وآلشقاء والأتكالية وآلنّفاق لمنافع ماديّة محدودة سرعان ما تنتهي بموت الأنسان الحتميّ بينما المثقف المفكر يبقى حيّاً خالدً بآلفكر وفي كل الظروف والأزمان والأكوان.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) دوللو، لويس: الثقافة الفردية و الثقافة الجماهيرية؛ ترجمة خير الدين عبد الصّمد؛ ط1, دمشق، 1993 ص 67.
(2) يتشكل الفكر الأنساني من مجموعة مؤثرات؛ الأبوين؛ ألبيئة؛ المدرسة؛ ألمذهب؛ النظام السياسي؛ ألدِّين؛ الذات؛ العناية الألهية؛ ألأقدار.
(3) ألوعي كلمةٌ تدلُّ على ضمِّ شيء, و في قواميس اللغة العربية؛ وَعَيْتُ العِلْمَ, أعِيهِ وَعْياً، و وعَى الشيء و الحديث يَعِيه وَعْياً و أَوْعاه: حَفِظَه و فَهِمَه و قَبِلَه، فهو واعٍ، و فلان أَوْعَى من فلان أَي أَحْفَظُ وأ َفْهَمُ. و في الحديث رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم قال: (( نَضَّر الله امرأً سمع مَقالَتي فوَعاها، فرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوعى من سامِع))، و الوَعِيُّ بمعنى الحافِظُ الكَيِّسُ الفَقِيه, و عليه لا وعي دون علم فكلما ازداد المرء علماً و فهماً ازداد وعياً, و آلواعي يدرك الأمور على حقيقتها لا كما يدركها العاقل المجرّد, عن طريق الحواس الخمسة, بل بنظري أن العقل يعتبر حاسة جامعة بجانب الحواس الأنسانية, تعمل كضابط لأهل(القلوب), لمعرفة المزيد؛ راجع بحثنا الموسع بعنوان: [أسفارٌ في أسرار الوجود], و الوعي عند علماء النفس؛ يمثل الحالة العقلية ألتي يتميز بها الأنسان بملكات المحاكمة المنطقية – الذاتية[ الإحساس بالذات) (subjectivity)، و الإدراك الذاتي (self-awareness)] والحالة الشعورية (sentience) والحكمة أو العقلانية (sentience) والقدرة على الإدراك الحسي (perception) للعلاقة بين الكيان الشخصي و المحيط الطبيعي له, خلاصة تعريف الوعي: هو ما يُكوّن لدى الإنسان من أفكار ونظرات ومفاهيم عن الحياة والطبيعة والوجود.
(4) (القلب), هو العقل الباطن أو ما يعبر عنه بـ(آلضّمير), أو (الوجدان), الذي يمثل حقيقة الأنسان و جوهره.