23 ديسمبر، 2024 8:37 ص

مفهوم(البغاء) عند نوال السعداوي

مفهوم(البغاء) عند نوال السعداوي

في كتابها (الانثى هي الاصل) تطرح الدكتورة نوال السعداوي عدة تساؤلات وتناقضات واعتراضات محيّرة تخص المرأة وعلاقتها بالمتجمع وموقف الرجل منها، الاعتراضات تأتي على مفاهيم تعتبرها السعداوي مجحفة وظالمة بحق المرأة، حيث تنظر المجتمعات الى هذا المخلوق اللطيف نظرة دونية وقاسية، وتحمّلها قضايا هي فوق طاقتها، بعكس الرجل، الذي جعلوه السيد المبجَل المسلًط على المرأة، فيحاسبها على الصغيرة والكبيرة، بينما هو حتى لو فعل الأفايل، فالمجتمع يغض الطرف عنه، ولا يحاسبه بقدر محاسبته المرأة.
فالمنغصات التي تعتري المرأة من المجتمع كثيرة، وذات جوانب متعددة، وهنا الدكتورة السعداوي تأخذ جانب مهم من هذه الجوانب، الا وهو قضية البغاء، وما صاحب البغاء من مشكلات.
وبداية تعترض السعداوي فترى، أنه “لا يمكن لأي قانون (في ظل عدم التساوي) أن يكون عادلًا؛ ولهذا لا يمكن لأي قانون يتناول علاقة المرأة بالرجل أن يكون عادلًا؛ لأن الحضارة الذكورية منذ نشأتها الأولى ومنذ بداية الأسرة الأبوية أعطت السلطة للرجل، وفرضت على المرأة الخضوع بالقوة. ولعل ظاهرة البغاء التي بدأت مع بداية الأسرة الأبوية تدلُّنا على تلك التناقضات الأخلاقية الصارخة، التي تميز المجتمعات الذكورية والحضارة الحديثة”.
تعريف البغاء
وتعرّف السعداوي البغاء بأنه يعني” حدوث عملية جنسية بين رجل وامرأة؛ لتلبية حاجة الرجل الجنسية، ولتلبية حاجة المرأة الاقتصادية، وبالرغم من أن الحاجة الجنسية (في الحضارة الذكورية عامة) ليست في أهمية من حاجة الرجل الجنسية، وهذا هو الأمر دائمًا في حالة عدم التساوي بين الأفراد. إن حاجة الحاكم مهما كانت ثانوية فهي أهم من حاجة المحكوم مهما كانت ضرورية، إن حاجة السيد إلى المتعة أو الترفيه أهم من حاجة العبد إلى الطعام أو النوم، إن حاجة الزوج إلى المتعة الجنسية أهم من حاجة الزوجة المريضة أو المرهقة إلى النوم، إن حاجة الرجل إلى المتعة الجنسية أهم من حاجة المرأة أو أطفالها إلى الطعام أو الكساء”.
إذن، فأن الامر الذي يجبر المرأة على ممارسة البغاء هو الجانب الاقتصادي، يعني أنه لولا حاجة المرأة والعوز الذي يعتريها لم يكن لها الاقدام على هذا الفعل المشين لولا العوز والحاجة؛ وهذه النظرية جدا صحيحة، كما ينظر اليها ارباب الاقتصاد.
القانون بصالح الرجل
وبذلك،” يُعطى الرجل الحق في إشباع حاجته الجنسية (داخل الزواج أو خارجه عن طريق تعدد الزوجات والخليلات والجواري والسراري وما ملكت يمينه)، وكذلك أيضًا عن طريق المومسات أو العشيقات، بشرط ألا يحضر عشيقته إلى بيت الزوجية”.
واعتراض السعداوي هذا، هو أن القانون يبيح للرجل الحق في اشباع غريزته الجنسية ولا يشدد عليها، بقدر ما يشدد على المرأة ويحملها المسؤولية الكاملة، من هذه الناحية، واذا اخطأت في ذلك ستكون عقوبتها قاسية؛ فجميع المجتمعات لا ترحم من هذه الناحية مما لا شك.
فتعلق السعداوي على هذه الحال وتقول:” أمَّا المرأة فهي التي تُعاقَب في جميع الأحوال، وفي جميع الظروف التي تدفعها إلى ممارسة الجنس، سواء كانت حاجة اقتصادية أو حاجة جنسية، ولا يُسمَح للمرأة بممارسة الجنس إلا مع زوجها فقط. والسؤال الذي يجب أن يُسأل هنا هو: لماذا لا يُسمَح للرجل أيضًا بعدم ممارسة الجنس إلا مع زوجته فقط؟ (زوجة واحدة وليست أكثر من ذلك، كما في حالة المرأة)، لماذا يعطي المجتمع الرجل حرية جنسية داخل الزواج وخارجه بغير شروط، وفي جميع الظروف، وجميع الأمكنة (ما عدا مكانًا واحدًا هو بيت الزوجية في حالة الرجل المتزوج)؟ هل هناك سبب تشريحي أو فسيولوجي؟ لقد اتضح من جميع هذه العلوم التي تتعلق بالجسد أو النفس أنه ليس هناك من سبب علمي يعطي الرجل حرية جنسية أكثر من المرأة، بل العكس هو الصحيح كما اتضح من البحوث البيولوجية الحديثة التي أوضحت أن الطبيعة زوَّدت المرأة بقدرة وحاجة بيولوجية وجنسية أشد من الرجل”.
وهنا قد يسأل سائل: هل تريد السعداوي بكلامها هذا أن تجعل المرأة مبتذلة وكل يوم هي بأحضان رجل؟!.
نقول: وهذا ما لا تدعو له السعداوي ابدا. انما هو تساؤل افتراضي، تريد الاشارة من خلاله، أنه لماذا المتجمعات تبيح للرجل ما لا تبيح للمرأة؟!.
ثم توضّح الاسباب الحقيقية الكامنة خلف ذلك، وتلقي بها على عاتق المجتمع” إن الأسباب التي دعت إلى إعطاء حرية جنسية للرجل ليست موجودة داخل جسم الإنسان، وإنما علينا أن نبحث عنها خارج الإنسان، أي في المجتمع”. اذن المسؤولية تقع على عاتق المجتمع، فهو الذي يتحمل ذلك.
تاريخ البغاء
وهل للبغاء تاريخ، كما لغيره من الظواهر الاخرى المجتمعية تاريخ كذلك؟. يتفق هنا الدكتور علي كمال فيما تطرحه السعداوي من هذه الناحية. يتفق على حد ما، بل ويشاطرها الرأي احيانا؛ خصوص في كتابه “الجنس والنفس في حياة الانسان” (راجع الطبعة الاولى دار الواسط بلندن، لسنة 1985)
وتُطرح السعداوي السؤال التالي: متى بدأ البغاء في العالم البشري؟!
وتجيب عليه من خلال المصادر التاريخية التي بحثت فيها ووجدت تلك الاسباب. “تدلنا معظم المصادر العلمية على أن البغاء بدأ في العالم البشري مع بدء الأسرة الأبوية، شأنه شأن «الرق»، الذي بدأ أيضًا مع بدء الأسرة الأبوية. إن الإنسان البدائي (قبل نشوء الأسرة الأبوية) لم يعرف شيئًا اسمه البغاء. إن البغاء لم يظهر في المجتمعات البدائية؛ لأن الحرية الجنسية كانت ممنوحة للشباب من الجنسين، ولم تعرف المجتمعات الأمومية البغاء؛ لأن مكانة المرأة الاجتماعية كانت عالية، وكانت لها الحرية الكاملة كالرجل. وهذا شيء منطقي. كما أن البغاء لا يمكن أن يحدث أيضًا في مجتمع يساوي بين الجنسين في القيود الجنسية. إن المساواة بين الجنسين سواء في الحرية أو في القيود تمنع حدوث البغاء، إن البغاء لا يحدث إلا إذا أُعطيت الحرية لجنسٍ، وفُرضت القيود على الجنس الآخر”.
وبعد هذا الايضاح، تطرح سؤالا آخر تهكمي: كيف يمكن أن يُستخدم الجنس الحر حريته ومع من يمكن أن يمارسها، طالما أن الجنس الآخر مُقيَّد؟.
فتقول:” وبهذا كان لا بدَّ من خلق مجموعة من الجنس الآخر تكون مهمتها الوحيدة هي إرضاء رغبات الجنس الحر، وهذا هو ما حدث في التاريخ. إن الرجل حين سلب من الأم النسب وأنشأ الأسرة الأبوية لم يكن في إمكانه أن ينسب أولاده إليه إلا إذا فرض على نفسه زوجة واحدة، إنه لو فرض على نفسه زوجة واحدة كما فعل مع المرأة لما ظهر في التاريخ البغاء، ولأصبح كل النساء زوجات وكل الرجال أزواجًا”.
فالرجل، بعد أن اصبح زمام الامور بيده، وصار كل شيء طوع امرته، منذ البداية، كما تقول السعداوي، وبالتالي قرر “أنه لن يكتفي بزوجة واحدة، وأن المرأة أيضًا لن تكتفي بزوج واحد (كان الرجل بالفطرة واعيًا بطبيعته وطبيعة المرأة)؛ ولذلك صنع الرجل لزوجته حزام العفة الحديدي، وخصص لمتعته الجنسية نساء أخريات خارج نظام الزواج، وأطلق عليهن اسم المومسات. وقد اتضح لعلماء الأنثروبولوجيا أن نظام الزواج (الأبوي) لم يكن من الممكن له أن يعيش ويثمر لولا وجود البغاء؛ فالبغاء هو الوجه الآخر للزواج؛ لأنه من غير البغاء لم يكن من الممكن للأزواج أن يَرْضَوْا جنسيًّا إلا إذا فُرض عليهم حزام العفة كما فُرض على النساء، لكن السلطة والقوانين كانت بيد الرجال، ولم يحدث في التاريخ أن أصحاب السلطة فرضوا على أنفسهم ما فرضوه على المحكومين”.

البغاء المقدس
نعم، فبعد أن اصبحت ظاهرة البغاء منتشرة في تلك المجتمعات القديمة، حتى وصل الى مجتمعاتنا هذه اليوم في ضوء الحضارة والتقدم العلمي والتكنولوجي.
تذكر السعداوي أن البغاء قد تطور عبر التاريخ، حتى تطور لدى بعض الشعوب أن اصبح مقدسًا، ثم تدرّج من مرحلته الاولى الى مرحلة متقدمة. إذ: “إن البغاء المقدس تطور عن تلك العملية المقدسة، وهي إزالة الرجال الغرباء لبكارة العذارى، وكان هدف البغاء المقدس عند هؤلاء الرجال هو رغبة الرجل في إمداد البغِيِّ بالقوة الخارقة التي تضمن أهليتها للإنتاج، وأن البغِيَّ المقدسة تنوب عن الآلهة في منح روادها قوة الإخصاب”. هذا، “وقد استمر البغاء المقدس في بابل حتى القرن الرابع قبل الميلاد، ثُمَّ أمر بإلغائه الإمبراطور قسطنطين حوالي سنة ٣٢٥ق.م”
واستمر البغاء وهو بهذا الهالة التي اضفت عليه، يدور على عقبيه دوران النواعير عبر التاريخ وفي تلك الحضارات القديمة، مع ذلك. “وقد ظل البغاء المقدس موجودًا حتى عصرنا هذا في بلاد منها الهند واليابان، وتفتح المعابد أبوابها في الهند والسند لاستقبال الفتيات اللائي يهبن أنفسهن للآلهة، ويخصص بعض هؤلاء الفتيات لإرضاء شهوات الكهنة والبعض الآخر لإرضاء شهوات حجاج الرجال الجنسية فحسب، ولكنهن يشتغلن أيضًا كخادمات في المعبد، فينظفن أرضه ويغسلن الصحون (المقدسة) ويرقصن ويغنين ويطربن الرجال، ويمارسن معهم الجنس، وغير مسموح لهن أن يتزوجن. ويدفع الرجال الذين يزورون المعبد ثمن اتصالهم الجنسي بالبغايا المقدسات، ويرأس كل مجموعة من البغاء رجل يتولى تحديد أجر كل واحدة منهن ويدير شئونهن. وإذا حملت البغِيُّ وولدت أنثى أصبحت بَغِيًّا كأمها ومُنعت من الزواج، وإذا كان المولود ذكرًا أصبح خادمًا في المعبد”. وفي بعض الشعوب وصل البغاء الى مرحلة خطيرة، تعرضت لها السعداوي بالبحث والتنقيب، الا أننا اعرضنا عن الاشارة اليها. لكن التطريف في الامر” إن منازل البغايا حلت كتطور طبيعي محل المعابد المقدسة، وظلت تؤدي الوظيفة الأساسية لها، وهي إرضاء شهوات زوار هذه المنازل، والذين كانوا من قبل زوار المعابد. وظلت منازل البغايا تؤدي وظيفتها الهامة للمجتمع في العصور الوسطى، وفي بداية انتشار المسيحية في أوروبا كان هناك بقايا صلة دينية بين البغاء والكنيسة”.
واذا نظرنا من خلال هذه النظرة، ومن زاوية معمقّة، فالبغاء اذن هو حضارة كانت ولا زالت تُحسب على كل المجتمعات شاءت هذه المجتمعات أم أبت. وهل تستطيع بدورها المجتمعات أن تتخلى عن حضارتها؟.
مخاطر البغاء
يؤكد الطب الحديث أن ثمة مخاطر جمة تصيب البشر الذين يمارسون البغاء، تصل هذه المخاطر حد الموت، وقد نشرت تقارير دولية عديدة مصورة عما فعله “الايدز”، هذا المرض الخطير الذي يصيب الجهاز التناسلي بسبب ممارسة البغاء(الجنس)، حتى فتك بآلاف البشر في العالم، وبالخصوص في الدول الاوروبية. وكذلك غير الايدز ثمة امراض كثيرة لا تقل خطورة عن هذا المرض، من التي تصيب الجهاز التناسلي، جراء الجنس خارج المنظومة الصحيحة للجنس.
“وحينما اشتد خطر البغاء بسبب انتشار الأمراض التناسلية وبسبب ازدياد البغايا (بسبب ازدياد الفقر من تزايد السكان وانخفاض المستوى الاقتصادي لهم)، واضطراد تزايد أعدادهن فأصبحن يمثلن مشكلة اجتماعية واقتصادية وطبية؛ اضْطُرَّت بعض المجتمعات في أماكن مختلفة في العالم إلى إصدار قوانين بمنع البغاء تمامًا، لكن هذا المنع لم يحدث إلا على الورق فقط، وظل البغاء يمارَس كما كان ولكن في الخفاء. وأوضحت الدراسات أنه في أي مكان يُحرَّم فيه البغاء قانونًا فإن ذلك لا يعالج المشكلة، وإنما يدفع بها إلى الممارسة السرية وما ينتج عن ذلك من مشاكل أخطر”.
حل يلوح بالأفق
فما هي الحلول الجذرية لمعالجة هذه الظاهرة، او على الاقل التخفيف من واطئتها؟.
وتجيب السعداوي مستشهدة برأي احد الخبراء المختصين بهذا الجاني، فتقول:” إنه قد ثبت أن ظاهرة البغاء هي ظاهرة غير قابلة للمنع، وليس لها من حل في أي وقت قبل المسيحية أو بعدها، ولا حتى في تلك الأوقات التي حصلت فيها الكنيسة على أقصى قوة سياسية”.
فليس ثمة جدوى والحال هذه. “لقد اتضح لعدد من العلماء أن البغاء ظل جزءًا متمِّمًا للحياة الزوجية في العصور الوسطى، وقد وصف إدوارد الأول سنة ١٢٨٥ كيف أن الزواج في العصور الوسطى لم يكن ناجحًا بسبب افتقاده الحب، وبسبب الوضع الأدنى للنساء والأطفال”.
وتضيف السعداوي: “ويعتقد بعض العلماء أن البغاء ظاهرة اقتصادية، وأنه لا بدَّ أن يوجد في البلد الذي لا يوفر العمل لجميع أفراده رجالًا ونساءً، أمَّا البلاد التي تتيح العمل لجميع أفرادها رجالًا ونساءً فإن البغاء ينقرض بغير قوانين. لقد انقرض البغاء في معظم المجتمعات الاشتراكية، وأصبح من المعروف الآن- للرجال الذين يزورون هذه البلاد- أن عملية البحث عن المومسات عملية يائسة تمامًا، وأن عليهم أن يبحثوا عنهن في البلاد الأخرى حيث تكون الدعارة (وحوانيت الاتِّجار بالجنس والفن الجنسي الرخيص) جزءًا لا يتجزأ من النشاط التِّجاري والرأسمالي في البلد”.
وهذا الرأي الاخر للسعداوي لا نتفق معها عليه، فالبغاء بشكل خفي لا يزال في المجتمعات العربية والاسلامية قائما على قدم وساق، ولعوامل كثيرة واسباب متعددة؛ فالإحصائيات في هذا الخصوص تشير الى ارقام مرعبة، وهو ما اشارت اليه بعض التقارير وأن كانت على قلتها، لكون الخوض في هذا الشأن هو من المسكوت عنه، ويدعو الذي يخوض فيه للحظر، وربما للمسائلة القانونية، سيما وأن هذه المجتمعات التي ذكرناها لا تتمتع بالديمقراطية، ولا تؤمن بالرأي والرأي الآخر، حتى وأن ادعت ذلك.
“إن عملية بيع الجسد نظير المال عملية غير إنسانية، لا يقدم عليها الإنسان (امرأةً أو رجلًا) إلا اضطرارًا لحاجة اقتصادية معينة. ومن المعروف أن تجارة الدعارة في أي مجتمع في أيدي الرجال أساسًا، والمرأة في معظم الأحيان ليست إلا أداة في يد رجل قَوَّاد، يشغِّلها ويستغل المال الذي تكسبه بجسدها وهوانها، ولا يعطيها إلا ما يسدُّ رَمَقها … إن الرجال هم الذين يكسبون من وراء البغاء ماليًّا أو جنسيًّا، أمَّا المرأة فهي التي تدفع الثمن وتؤدي الضريبة، وتتحمل العار وحدها والهوان، وتُساق عند اللزوم وحدَها إلى السجن والعقاب”. نعم، جدا صحيح، وهو هذا ما يحصل وللأسف الشديد، برغم التشديد والرقابة الامنية وغيرها. “إن هذا القطاع من النساء اللائي أُطلق عليهن «المومسات» لسن إلا إحدى الظواهر الاجتماعية للحضارة الذكورية القائمة على الأبوية، وكان على هؤلاء النساء التعيسات أن يكُن كبش الفداء لهذه الحضارة من أجل أن تقوم وتستمر وتزدهر”.
ظلم وقسوة
وبعد هذا الظلم وهذه القسوة وهذا التراجع بحق المرأة، وعدم مساواتها بأخذ حقوقها كشريكة للرجل ويد فاعلة بديمومة وبقاء المجتمع، والنهوض به نحو آفاق مستقبلية منشودة، هل هناك شيء آخر؟. تقول السعداوي: نعم:” وكان هناك أيضًا قطاع آخر من البشر لا بدَّ أن يكون كبش فداء لهذه الحضارة القائمة على الظلم والاستغلال وعدم المساواة بين الجنسين، هذا القطاع من البشر هم الأطفال، الذين يَنتجون عن ممارسة الرجال للجنس خارجَ الزواج أو الأسرة الأبوية، والذين أُطلق عليهم (الأطفال غير الشرعيين). إن هذه الظاهرة ليست إلا مظهرًا من مظاهر التناقض الأخلاقي والإنساني للحضارة الذكورية غير الأخلاقية وغير الإنسانية، لكن شهوة السلطة تُفقد الرجال المنطق، وتصبح قوانينهم متناقضة، وتنتج عنها ظواهر لا معقولة وقيم عكسية؛ ففي الوقت الذي يدَّعي فيه الأب الإنسانية والأبوة والحب في علاقته بأطفاله، نجد هذا الأب نفسه يقسو ويتنكر لأطفاله، لماذا؟ لأن أطفاله من النوع الأول، وُلدوا من المرأة التي اختارها الرجل للزواج، أمَّا أطفاله من النوع الثاني فقد وُلدوا من المرأة التي اختارها الرجل للعشق فقط!”.
وتشير السعداوي الى” إن الرجل في كلا الحالين (الزوج أو العشيق) هو الذي يختار، وهو الذي يحدد العلاقة زواجًا أم عشقًا فقط … وإن الرجل في كلا الحالين هو الأب لجميع الأطفال الناتجين عن زواجه أو عشقه، ومع ذلك فإن هذا الرجل الواحد لا يعامل أطفاله بالتساوي، لماذا؟ والسبب واحد، وهو توريث أطفاله من داخل الزواج فقط من أجل استمرار بقاء النظام الأبوي”. وهذا مشكلة اخرى تعتري المجتمع فوق تلك المشكلات، فلا ندري يكشف عن ماذا؟” وهذا يكشف أن الرجل في علاقته بأطفاله لا يعرف الحب ولا الإنسانية ولا الأبوة الحقيقية؛ لأن الحب بين الأب وأطفاله لا يمكن أن يكون حقيقيًّا إلا إذا منح هذا الحب للأطفال جميعًا، وليس لجزء منهم دون الجزء الآخر، خاصةً أن الطفل المولود يأتي إلى الحياة بغير إرادته، وليس من العدل ولا المنطق ولا الإنسانية جعله كبش فداء للنظام الأبوي القائم”.
فالأمر ينذر بالخطورة، خطورة جسيمة يتحملها المجتمع نفسه، وستبرز في فجواتها جرائم لا يمكن تفاديها أو حلها، الامر الذي فكك وسيفكك المجتمعات، ومن الصعوبة بمكان أن نجد حلول جذرية لها. “وكم من قصص أليمة عن حياة الأطفال الذين عُرفوا بالأطفال غير الشرعيين، كم يُحرَمون من جميع الحقوق الأخلاقية والإنسانية والاقتصادية والاجتماعية التي يحظى بها إخوانهم الشرعيون. والغريب أن الرجل مهما تنوَّر ومهما بلغ من الثقافة أو العلم أو الفن فإنه يتهرب من أطفاله غير الشرعيين، ويحرمهم من المال مهما بلغ ثراؤه”.
النتيجة
وتخلص السعداوي بالنتيجة التي توصلت اليها من خلال دراستها لمشاكل المرأة بصورة عامة، ومسألة البغاء بورة خاصة. “وهذا يدلنا على أن ممارسة المرأة للجنس خارج الزواج قد يُقدَّس (البغاء المقدس)، وقد يُلعَن ويصبح عارًا على المرأة وحدَها وأطفالها، فالمسألة هنا ليست الفعل ذاته، وإنما هي نظرة الرجل إلى هذا الفعل، قد يقدسه وقد يلعنه حسبما يتراءى له ذلك”.
وهل سيعي الرجل هذه المسؤولية التي تقع على عاتقه؟. الجواب للقارئ الكريم.