23 ديسمبر، 2024 6:49 ص

مفعول النعامة ليس مجديا مع فيسبوك

مفعول النعامة ليس مجديا مع فيسبوك

من الأهمية بمكان أن نتساءل عن القضايا التي تعرض وسائل الإعلام إلى السطحية والتكرار والانقياد للثقافة السائدة؟ إحداها هي العقلية الضيقة وتكرار الشائع من الكلام، والمؤسف حقا أن يقوم بذلك إعلاميون على درجة من الأهمية بالنسبة إلى بعض الناس.

عبر لي أستاذ جامعي بريطاني من أصول عربية عن إحساسه الفظيع تجاه ما ينشر على فيسبوك، ليس بطريقة الأفاقين الذين يزعمون أمام الآخرين أنهم لا يشاهدون التلفزيون، بينما هم في حقيقة الأمر مولعون بكل ما يعرض فيه.

قال إنه يشعر بالاستياء والانزعاج مما ينشره أغلب المستخدمين على هذه المنصة، لم يجد ما هو مفيدا بالنسبة إليه على الأقل لمعرفة حقيقة أخبار بلده من الناس وليس من وسائل الإعلام، لكن الناس -للأسف- لا ينشرون غير الهراء! فكل الكلام المنشور محبط للغاية.

لدى هذا الأستاذ المعتد بنفسه وأفكاره حساب على فيسبوك لا ينشر فيه شيئا مما يفكر فيه، لكنه نافذة لمراقبة التفاعلات المحتدمة على تلك المنصة المزعجة أكثر مما يمكن أن نتصوره من حشد من الثرثارين المتجمعين في قاعة واحدة.

ليس مدمنا على فيسبوك، لكنه يشعر بالندم كلما تسنى له تصفح ما يكتبه الناس ممن يعرفهم أو لا يعرفهم، الأمر يشبه ما يقوم به أغلب الأطفال في تغطية عيونهم عند مشاهدة فيلم مرعب على شاشة التلفزيون، أو ما يسمه تيم هارفورد في صحيفة فايننشيال تايمز “مفعول النعامة”، فبالنسبة إلى السلبي من الأخبار ليس هناك ضرر كبير من تغطية عينيك، لكن عندما تكون هناك دروس عملية يجب تعلّمها، يُعبّر هارفورد عن استغرابه في أن نظل نختبئ وراء أقرب قطعة أثاث، فهذا يعني أن المشاكل آتية “في بعض الأحيان لا يمكن أن نكون مثل النعام، بل نكون مضطرين لمواجهة معلومات غير مرحب بها. حتى

في هذه الحالة، يكون لدينا مجال كبير لرؤية الأشياء بالطريقة التي نفضل رؤيتها بها”.

هذا الأمر ما يثير صديقي الأستاذ الجامعي، كي لا يفقد هدوءه مع أخبار وآراء نقلت الثقافة السائدة وحديث الشارع إلى منصات هائلة للتبادل بين الناس في مختلف جهات العالم.

فالناس لا يزدادون غباء بمرور الوقت وفق الكاتبة فاي فلام، لكن البروفيسور في النظم المعقدة بجامعة انديانا، فيليبو منز، لديه تفسير لذلك، فلدى الإنسان ميل فطري لنسخ السلوكيات الشعبية، أشبه بحيوانات نهمة لاستهلاك ما ينشر على مواقع التواصل الاجتماعي.

يشرح هارفورد ذلك بالقول إن الناس ينقبون في المعلومات التي تمنحهم طرقا لتأييد معتقداتهم الحالية، عند دعوتهم للبحث عن المزيد من المعلومات، كانوا يبحثون عن بيانات تدعم أفكارهم المسبقة. “تأكيد التحيز هذا هو الجانب الآخر من مفعول النعامة، وعند الطلب منهم تقييم قوة الحجة المعارضة سيبذلون جهدا كبيرا في التفكير بطرق لدحضها”.

تيم هارفورد نفسه سبق وأن عبر عن “احتقاره لفيسبوك”! معترفا بأن أسباب تحيزه ضد هذا الموقع هي نفس الأسباب التي عادة ما يحتقر الناس بسببها فيسبوك: الخصوصية، وقوة السوق، والتشويش، والتفاعلات بالابتسامات الوهمية، وبقية الأمور الأخرى.

لا يحتاج الأمر إلى جهد كبير لتحليل مستوى ما ينشره العامة من أخبار وتعليقات على منصاتهم الاجتماعية، فهو مرتبط بمستوى الوعي وطريقة التفكير والانحياز الفطري، وزاد الأمر رداءة التصاعد السياسي والديني الرث داخل المجتمعات العربية.

كل هذا الكم من التدوينات ليس مصــدرا إعلاميا وفق المحاور التلفزيوني البريطـاني جون همفريز، إذ لا يرى همفريز الذي عرف كمحاور لا يقبل التردد مع كبار السياسيين على “بي بي سي”، في هذا الكم الهائل من المعلومات على تويتر وفيسبوك أكثر من “كلام حانات” يتداوله الناس يوميا ولا يمكن التعويل عليه بأي حال من الأحوال.

فحسب تعبيره “من يريد أن يعرف ما يفكر فيه الناس العاديون عليه مقابلتهم في حانة أو مقهى”.

لكن أن يسهم أفراد على درجة من الوعي في تلك الرداءة والسلبية ورفع مستوى الضغائن وإثارة الاستياء وتكرار نشر الهراء في محاولة متصاعدة لجعل الناس يصدقون مثل هذا الكلام، أمر مخيف حقا.

من الأهمية بمكان أن نتساءل عن القضايا التي تعرض وسائل الإعلام إلى السطحية والتكرار والانقياد للثقافة السائدة؟ إحداها هي العقلية الضيقة وتكرار الشائع من الكلام، والمؤسف حقا أن يقوم بذلك إعلاميون على درجة من الأهمية بالنسبة إلى بعض الناس.

الجمهور أعاد صنع خطاب كتّاب وصحافيين، فانقادوا بوعي أو بانحياز أناني لثقافة الجمهور الشائعة، فقد وصل الأمر بروائي وقاص أصدر أكثر من عشرة كتب أن يخاطب متابعيه على فيسبوك باللهجة الدارجة!

وخطورة ذلك تكمن- بغض النظر عما يريد إيصاله من أفكار- أنه وجد في السطحية وسيلة مغرية للانتشار!

إعلامي قضى أكثر من نصف قرن من العمل الاحترافي والمسؤول وزع على متابعيه باهتمام مثير، خبرا مفبركا عن هروب زعيم عربي والاستقرار في دولة آسيوية، قبل أن يضع مثل هذا الخبر تحت مجهره الإعلامي الذي حاز عليه قبل خمسين عاما!

لن يكون “مفعول النعامة” مجديا مع ما ينشر على فيسبوك، لكننا لا نملك خيارا إزاء ما نشعر به من الاستياء والإحباط عما يكتبه البعض!
نقلا عن العرب